رئيس التحرير

زينب عبدالكريم التميمي تكتب :  واغتيلت ..سيد ريح الجنة

الإثنين 05-12-2022 22:26

بقلم : زينب عبدالكريم التميمي

من على تل يعلو مدينتي وبمنظار  كان قد أهداه لي جدي الشهيد، أخذت أرقبها كعادتي كل يوم…  مدينتي،

أرقبها ولا أعرف في الحقيقة عما أبحث؟

عن نفسي، عنهم، أم عن ذلك الشيطان وتبيعته الجنّية،  اللذان  زرعا الرعب بنا رغم أننا لم نرهما بل كنا نلمس وجودهما  من خلال قصص الاخرين عنهما.

ركزت في  بؤبؤ المنظار الذي لمَّ الاف الحكايا لمن جنوه قبلي..

الحياة هادئة، أشجار  النخيل الباسقة التي بدأت تطرح ثمارها للتو وكأنهن فتيات سومريات علّقْن في أجيادهن  عقود من ذهب، ونبتة الحناء تفترش الأرض  تغازل  وجه الماء الذي يغمرها. تلك الحناء التي كانت أمي تخلطها   بحَبِّ الرشاد  لتنثرها كلما سمعت طرقات الباب اعتقادا  منها أنها ستسلب الشيطان قوته، وتبطل سحر الجنية.فكثير ماكنت أسمعها تمتم بكلمات مبهمة حتى ظننت لوهلة انها من عالم ينتمي لعالم الجن ولكن الصالح منه.

في الناحية الاخرى وفي احد درابيز الحي،  الأطفال  يلعبون الغميضة يركضون، يختبئون، ليعاودوا الركض من جديد باحثين عن مخبأ اخر ، يملأهم الفرح الفطري غير عابئين بما حولهم من بؤس ، كما هناك العم محمد، الرجل السبعيني الذي شاعت حكايته في الحي ومايجاوره من الأحياء الاخرى  القريبة من حيّنا، هاهو  كعادته يجلس يحادث أبناءه الذين أبى ألا أن يدفنهم في أرضه ليكون قريبا منهم،

حكاية غريبة نمت في عقولنا مذ كنا صغارا كما حكايات أخرى، حيث أخذتهم  الجنية هم  الأربعة، ورمتهم بعد سنتين عند بابه جثثا هامدة منزوعة الأظافر مشوهة الوجوه…

وأنا أحاول الطواف  بمدينتي بمنظاري،  ادور  برأسي هنا وهناك  أرقب البيوت، المارة، المدارس، المسارح والسينمات، بدا  كل شيء هادئا نسبيا، إلا أن  ماحدث انتزع هذا الهدوء، جمهور غفير،  يتدفقون الواحد تلو الاخر، يحملون صناديقا   بأشكال هندسية مختلفة،  يتوغلون من فتحة صغيرة في رحاب صدر جدار  طيني،  وجوههم وشعورهم موسدة بالطين. ينتعلون نعلا أكبر من أرجلهم، ثم؛

ماعاد النخل موجودا  ولا ضحكات الأطفال مسموعة وحتى العم محمد هو الاخر لا أثر له. عادت الى ذهني تلك الجنية تساءلتُ:

هل هي وراء كل مايحدث ؟

. المسارح تختفي، صالات السينما لم يعد لها وجود وكل ماكان من معالم، فقط؛ رؤوس مبان تعلوها صور مبهمة، حتى منظاري لم يستطع تمييزها، لم تعد الرؤية واضحة ، الأرض تنز بالمياه الآسنة التي أخذت تتسارع  بالارتفاع حتى غطت كل شيء،  الصناديق تطفو، تنفتح، تخرج منها مومياءات ترفع رماحا تعلوها   أصابع  زرقاء، تبدو أنها قُطِعتْ للتو، ما زال الدم منها يسيل. الماء  بدأ يرتفع وقد  تلون بلون الدم ، غطّى كل شيء .. أغمضت عيني ضربت وجهي بكفيّ علّني استيقظ من هذا الرعب، فتحتها ثانية، لست بحالم انه واقع… وكأن الخليقة تطوى الى أفق الأين.. عدتُ الى الجنية  والعم محمد وتلك السواحل التي هجرتها النوارس بذاكرتي،  لم يلبث فيها غيره عطر الحناء ذاك  وأقاويل أمي عن هزيمة الشيطان، والحقيقة إني لم أرَ غير  انتصاره.

لا أعرف كم من الوقت وأنا أعتلي التل، لم أستطع النزول لليوم، لا أتذكر  عدد الأيام التي مرت وأنا أنظر مدينتي تغرق، كما  أنتظر مصيري، أرتقبه، فلحظة ما سيغمرني الطوفان،  لم أكن أعرف أن  لعنة الجنية  ستلاحقنا، وأن الشيطان لا سبيل عنه بعد أن تَقَمَصنا الخوف منه فلطالما نصبناه خليفة في الارض، غادرني  منظاري كما الحناء التي  طالما حرّزتني بها أمي، غادر العم الطيب محمد، غادرني الجميع،  وها أنا أشمِّر بيديّ محاولا اقتناص فرصة للخلاص، عَصرني الخوف، ضاق نفسي،تزايدت دقات قلبي،   مرّ كل شي سريعا، تذكرتُ لمَ اعتليتُ التل بعد ما كنت نسيت، تذكرتهم  َ، تذكرتُ أن لا بيتأ هناك يأويني بعد أن فقدتُ طفلي وزوجتي في حريق المستشفى الذي كانا يرقدانه، كما فقدتُ أمي التي راحت ضحية الجلطة من  مداهمات الأمن  بسبب أخي الذي غادر الوطن منذ زمن، لم تعينها كل طقوسها وابتهالاتها، لم تنجدها حنّاءُها  لتغلب الشيطان الذي كان يسكنهم. “سينتصر الحق يوما” قالتها مبتسمة وهي تودعني بنظرة المنتصر رغم الوجع الساكن فيها.

تذكرت كل هذا وأنا أحاول وأحاول الغوث  علّني أقاوم الطوفان.

التعليقات مغلقة.