د. مظهر محمد صالح يكتب : الخمر .. والأغلبية الصامتة .
الخميس 11-05-2023 21:05
بقلم الدكتور : مظهر محمد صالح
أذا كان الخمر قد رافق الميول
البشرية وتصرفاتها منذ بضعة آلاف من السنين للدخول في حالات من الاسترخاء وتناسي الوعي والهروب من واقع الحياة والعيش في عوالم اخرى، فان الاغلبية الصامتة ربما هي سلوك اشد غرابة في التصرفات البشرية حينما انتشر هذا المصطلح في الحياة السياسية منذ العام 1874. ففي ذلك التاريخ اشرت السلوكيات السياسية الاميركية هذا المصطلح ليعبر عن: الاغلبية الصامتة من الاحياء هم بالتأكيد اقل من الاموات في عالم التفاعلات السياسية!
هم بالاحرى فريق يشكلون الاغلبية من الناخبين ولكن لم يظهروا رأيهم سواء بالتظاهر او التعبير في الحياة العامة عن رغباتهم السياسية. ويأتي هذا الامر بخلاف ما استخدمه ريتشارد نيكسن منذ العام 1960 كزعيم سياسي ورئيس اميركي بارع، بأن سياساته هي مدعومة من اغلبية السكان ممن لم يريدوا ازعاج انفسهم بالافصاح عن وجهات نظرهم!
استقبلت صباحي المشمس في مدينة اسطنبول وانا اتطلع من فندقي المطل على مضيق البسفور يوم ابتدأت الانتخابات النيابية التركية في 12 من حزيران 2012 لأجد في اسفل باب غرفتي رسالة ودية تضمنت عبارات شديدة الاعتذار من مدير قسم الغرف في الفندق محذرا بكل سرور من ان الخمور في هذا اليوم، يوم الانتخابات العامة، ممنوعة منعاً باتاً في البلاد كافة ابتداءً من الساعة السادسة صباحاً وحتى الساعة الثانية عشرة ليلا!
كان الرجل كريماً للغاية، اذ نصحنا بتناول المتوافر من الكحول في ثلاجات الغرف الفندقية لنزلاء الفندق حصريا، نحن الغرباء الذين لا نفقه حدود ومحددات مسكرات الديمقراطية السياسية!
قدرت ذكاء الرجل وقدراته الادارية في مجال التسويق الفندقي الجيد عن طريق توليد عرض احتكاري لزبائنه من المولعين بالخمور من خلال تقديم الكحول المتوافر في ثلاجات غرف الفندق او حتى في الطابق الثامن عشر المطل على مضيق البسفور، المخصص لنزلاء النخبة حصريا.
أخذني الفضول بعد تناولي فطور الصباح للتساؤل عن مغزى هذا الإجراء القسري. ولماذا تمنع المشروبات لدواع ليست دينية في يوم الانتخابات؟ وهل الحياة الديمقراطية التركية تضع قيوداً على سلوك الناس وتصرفاتهم الى هذا الحد في يوم اختيار ممثليهم؟
ذهبت الى قسم الاستقبال وجرني الحديث مع فتاة اسطنبولية في غاية الجمال للتعرف عن اسباب تحريم الكحول في هذا اليوم الديمقراطي. اجابتني بلطف شديد ان الحكومة تخشى ان يستغل (السكارى) يوم الانتخابات لاثارة الفتن لكونهم يعيشون حالة اللاوعي (السياسي) ما يدفعهم للقيام بأعمال شغب، وهو امر قد يعكر سير الانتخابات الديمقراطية، منوهة الى ان عقوبة المخمور القانونية عن تخريب صناديق الانتخابات تكون عادة في حدها الادنى مقارنة بغيره من المخربين اصحاب الوعي (السياسي) من (غير المخمورين)، وهو اجراء احترازي لحماية الديمقراطية في ذلك البلد من (السكارى) والدور السياسي الخطير للحانات على اليمقراطية!
بدا لي ان أعداد المخمورين هائلة في بلدان الديمقراطيات الناشئة، وربما يشكلون (الاغلبية الناطقة غير الصامتة هذه المرة)، لكونهم سكارى الشعب الاكثر وعيا في مواجهة زيف الانتخابات! وانه ما لم يتم سلبهم ادواتهم الانتخابية للتصويت، واعني (زجاجات الخمر الفارغة بعد ان استنفدوا محتواها)، فأن النتائج الانتخابية ربما ستقلب رأساً على عقب!
قلت في نفسي إن المسكرات والخمور غير محرمة في الديمقراطيات الغربية، وان الانتخابات تسير بسلاسة عالية في الغالب وليس ثمة تعارض بين تناول الكحول والذهاب الى صناديق الانتخابات، ويمكنك اخذ الكحول المناسب بما لا يحرج الديمقراطية الغربية، وتكون النتائج الانتخابية في الغالب في غاية الدقة والسلامة. وحتى عندما يذهب الناخبون الى صناديق الاقتراع، بين مصوت لم يحتس الخمر تماماً او شبه ثمل او ثمل تماماً، يبقى التعبير عن الصوت الديمقراطي حقيقي قد لا تشوبه شائبة الى حد بعيد.
المشكلة في بلدان الديمقراطيات الناشئة ان الاغلبية الصامتة المتوجهة الى صناديق الاقتراع ربما هي ممن لم تحصل على ما تريده من الخمور يوم الانتخابات وتذهب مضطرة وفي حالة من اللاوعي (السياسي) حتما، على الرغم من انها تفتقر لحالة السكر والوعي به!
لكي تتماثل الديمقراطية الناشئة مع الديمقراطية الغربية حقاً في معايير الكفاية، فلابد من ان تترك الاكثرية الناطقة لتستفيق من سباتها وتبحث عن صناديق الاقتراع للتعبير عن رأيها بصدق وواقعية ووعي كاف!
فاذا كان المخمورون هم النخب الاجتماعية الأكثر تأثراً بمسار الحياة السياسية وتوليد نجاحاتها واختزال مساحات الفشل فيها، فلابد لهذه النخب ان تحصل على شيء من (الخمر الديمقراطي) للتعبير عن مكنوناتها العقلية وتجسيد وعيها السياسي الباطني لبلوغ الامثلية في الحياة السياسية! وبهذا ستتحول جموع المخمورين من اغلبية صامتة غير معروفة الميول الى اغلبية واعية ناطقة بصوت عال. وبخلافه فأن الاغلبية الصامتة ستبقى المجهول الذي سيتعب صناع السياسة في بلدان الديمقراطيات الناشئة جميعا، طالما ان جموع ناخبيها لم تحصل على ما تريده من الخمر الديمقراطي يوم الانتخابات كي تدلي بدلوها في تلك الصناديق وتملؤها باوراق واعية بعد ان تتخلى عن زجاجاتها (الفارغة) وتوفر السلم الاجتماعي الديمقراطي!
عندها ستهتف الاغلبية الناطقة وبصوت واحد: نحن نسكر حتى تصحى (الديمقراطية الصامتة) وتستفيق من نومها!