الزمن الجميل … الفنان نجيب الريحانى استاذ حمام السينما من موظف فى البنك الزراعى الى نجم المسرح العربى والتيفود ينهى حياته
الإثنين 12-06-2023 22:04
هوليود الشرق مصر والسينما المصرية فيها برع عدد من النجوم فى السينما المصرية، في العديد من الأعمال الفنية واستطاعوا حفر اسمائهم في تاريخ السينما، ورغم وفاتهم إلاأن أدوارهم مازالت محفورة في أذهان جمهورهم إلى الآن ومنهم الفنان نجيب إلياس ريحانة الشهير باسم نجيب الريحاني (21 كانون الثاني (يناير) 1889م \ 20 جُمادى الأولى 1306هـ – 8 حُزيران (يونيو) 1949م \ 12 شعبان 1368هـ)، هو ممثل فُكاهي مصري، يُعد أحد أبرز رُوَّاد المسرح والسينما في الوطن العربي عمومًا ومصر خصوصًا، ومن أشهر الكوميديين في تاريخ الفنون المرئيَّة العربيَّة.
وُلد في حي باب الشعريَّة بِمدينة القاهرة في زمن الخديويَّة، لِأبٍ عراقيٍّ كلدانيّ من مدينة الموصل يُدعى «إلياس ريحانة»، كان يعمل بِتجارة الخيل، فاستقر به الحال في القاهرة لِيتزوَّج امرأةً مصريَّة قبطيَّة أنجب منها ثلاثة أبناء منهم نجيب. تلقَّى الريحاني تعليمه في مدرسة الفرير (بالفرنسية: Les Frères) الفرنسيَّة بالقاهرة، وفيها تجلَّت موهبته التمثيليَّة المُبكرة، فانضمَّ إلى فريق التمثيل المدرسيّ، واشتهر بين مُعلميه بقُدرته على إلقاء الشعر العربي، حيثُ كان من أشد المُعجبين بالمُتنبي وأبي العلاء المعرِّي، كما أحب الأعمال الأدبيَّة والمسرحيَّة الفرنسيَّة. بعد إتمامه دراسته، عمل مُوظفًا بسيطًا في شركةٍ لِإنتاج السُكَّر في صعيد مصر، وكان لِتجربته هذه أثرٌ على العديد من مسرحياته وأفلامه السينمائيَّة لاحقًا، وعاش لِفترةٍ مُتنقلًا بين القاهرة والصعيد. وفي أواخر العقد الثاني من القرن العشرين الميلاديّ أسس مع صديق عُمره بديع خيري فرقةً مسرحيَّة عملت على نقل الكثير من المسرحيَّات الكوميديَّة الفرنسيَّة إلى اللُغة العربيَّة، وعُرضت على مُختلف المسارح في مصر وأرجاء واسعة من الوطن العربي، قبل أن يُحوَّل قسمٌ منها إلى أفلامٍ سينمائيَّة مع بداية الإنتاج السينمائي في مصر.
تزوَّج الريحاني امرأةً لُبنانيَّة تُدعى بديعة مصابني تعرَّف إليها أثناء إحدى عُروضه في لُبنان، واصطحبها معهُ إلى مصر حيثُ افتتحت ملهىً خاصًا بها اشتهر باسم «كازينو بديعة»، كما أسست فرقتها المسرحيَّة الخاصَّة كذلك التي عُرفت باسم «فرقة بديعة مصابني» والتي اكتشفت العديد من المواهب التمثيليَّة في مصر. انفصل الريحاني عن بديعة مصابني في وقتٍ لاحق، ليتزوَّج بامرأةٍ ألمانيَّة هي «لوسي دي فرناي» وأنجب منها ابنته الوحيدة. أُصيب الريحاني في أواخر أيَّامه بِمرض التيفوئيد الذي أثَّر سلبًا على صحَّة رئتيه وقلبه، وفي يوم 8 حُزيران (يونيو) 1949م المُوافق فيه 12 شعبان 1368هـ، تُوفي الريحاني في المُستشفى اليُوناني بِحي العبَّاسيَّة بِالقاهرة، ولمَّا يختتم تصوير آخر أفلامه، ألا وهو «غزل البنات»، وكان لهُ من العُمر 60 سنة.
ترك نجيب الريحاني بصمةً كبيرةً على المسرح العربي والسينما العربيَّة، حتَّى لُقِّب بِـ«زعيم المسرح الفُكاهي» في مصر وسائر الوطن العربي، ويرجع إليه الفضل في تطوير المسرح والفن الكوميدي في مصر، وربطه بالواقع والحياة اليوميَّة في البلاد بعد أن كان قبلًا شديد التقليد للمسارح الأوروپيَّة، ويُعرف عنه قوله (في خليطٍ من اللهجة المصريَّة العاميَّة واللُغة العربيَّة الفُصحى): «عايزين مسرح مصري، مسرح ابن بلد، فيه ريحة “الطعميَّة” و”المُلوخيَّة”، مش ريحة “البطاطس المسلوق” و”البُفتيك”… مسرح نتكلَّم عليه اللُغة التي يفهمها الفلَّاح والعامل ورجل الشارع، ونُقدِّم لهُ ما يُحب أن يسمعهُ ويراه…». وكان لِلريحاني وأُسلوبه التمثيلي تأثيرٌ على العديد من المُمثلين اللاحقين، منهم فُؤاد المُهندس الذي اعترف بتأثير أُسلوب الريحاني عليه وعلى منهجه التمثيلي. وقد أدَّى دور الريحاني عدَّة مُمثلين في عدَّة مُسلسلات تلفزيونيَّة تحدثت عن بدايات الفن المسرحي والسينمائي في مصر والوطن العربي.
مولده ودراسته
وُلد نجيب الريحاني بِمدينة القاهرة يوم 21 كانون الثاني (يناير) 1889م، المُوافق 20 جُمادى الأولى 1306هـ، من أبٍ عراقي موصلي كلداني يُدعى «إلياس ريحانة»، وامرأة مصريَّة قبطيَّة أرثوذكسيَّة تُدعى «لطيفة بُحلُق»، وكان أحد ثلاثة أبناء لِوالديه، وعُمِّد على يد الخُوري يُوحنَّا طوَّاف يوم 15 أيَّار (مايو) 1889م. أمضى الريحاني طُفولته في حي باب الشعريَّة، الذي كان مقر الطبقة المُتوسطة القاهريَّة في ذلك الوقت. وكان أبوه يمتلكُ مصنعًا للجبس يدُرُّ عليه ربحًا وفيرًا، يكفل لِزوجته وأبناءه حياةً كريمة. وقد أتاح هذا الأمر لِأبنائه أن يلتحقوا بِأرقى المدارس، آنذاك، إذ تابع نجيب عُلومهُ في مدرسة «الفرير» (بالفرنسية: Les Frères) الفرنسيَّة، حيثُ تلقَّن تعليمه بِتلك اللُغة حتَّى ألمَّ بها إلمامًا كبيرًا. وكان يتميَّز في هذه المرحلة من حياته بِهُدوئه وميله لِلعُزلة وانكبابه على الدراسة، وأظهر معها اهتمامًا باللُغة العربيَّة والأدب، فتأثر بالمُتنبي وأبو العلاء المعرِّي، واستوقفتهُ آثار الأُدباء الفرنسيين مثل: ڤيكتور هوگو وجان دو لاڤونتين وموليير. هذا الميل الأدبي تبلور لديه في حُب الشِّعر، الذي كان يُجيد إلقائه بِاللُغتين العربيَّة والفرنسيَّة، ممَّا أثار انتباه مُدرسيه، وفي مُقدمتهم الشيخ بحر أُستاذ اللُغة العربيَّة، الذي أبدى إعجابه الشديد بإلقاء الريحاني لِلشعر، وأثنى على حُبِّه للتمثيل، فأخذ يعهد إليه بِإلقاء الشعر في المُناسبات، ورشَّحهُ لِعدَّة مسرحيَّات مدرسيَّة وأسند إليه فيها أدوارًا تمثيليَّة. ولم يمضِ وقتٌ قصير حتَّى أسند إليه رئاسة فريق التمثيل. وكان الريحاني حين يعود إلى بيته، يُغلق باب حُجرته، ويُدرِّب نفسه على الإلقاء بِصوتٍ مُرتفع يبلغ مسامع الجيران.
وفاة والده
تُوفي والد الريحاني وهو طالب. ويظهر أنَّهُ أوصى بِكُل ثروته لابنة أُخته اليتيمة، بحُجَّة أنَّ أبناءه قادرون على إعالة أنفُسهم، في حين أنَّ المرأة لا تستطيع. وكان أن وجد الابن الأكبر «توفيق» كاتب المحكمة – نفسه مسؤولًا عن إعالة الأُسرة. حتَّى إذا حصل نجيب على شهادة «البكالوريا» (الثانويَّة العامَّة) – وهو لم يبلغ السادسة عشرة بعد – التحق بِعملٍ بالبنك الزراعي، لِيُساهم بِدوره في الإنفاق على أُسرته.
عندما بدأ الريحاني بِعمله في البنك الزراعي، تعرَّف على عزيز عيد، وهو مُخرجٌ شاميّ شاب لم يكن عمله في البنك يمنعه عن مُولاة التمثيل – فلم تلبث أن جمعت بينهما صداقةٌ متينة، تأصَّل حُب الريحاني لِلمسرح في ظلِّها، إذ أخذ الصديقان يتردَّدان معًا – لِعدَّة أشهر – على الفرق المسرحيَّة بالقاهرة. وتمكنا من الحُصول على وظيفتيّ «كومبارس» بِدار الأوپرا، حيثُ كانت الفرق الأجنبيَّة تعمل في موسم الشتاء، وكانت أوَّل رواية اشترك الريحاني في تمثيلها هي رواية «الملك يلهو» وكان قد ترجمها أديب اسمه أحمد كمال رياض بك. وبذلك أُتيح للريحاني مُشاهدة تمثيل بعض كبار المسرحيين في زمانه، مثل: جان مونيه – سيلي (بالفرنسية: Jean Mounet-Sully)، وبنوا قسطنط كوكلان (بالفرنسية: Benoît Constant Coquelin)، ولوسيان جرمان گيتري (بالفرنسية: Lucien Germain Guitry)، وسارة برنار (بالفرنسية: Sarah Bernhardt). وفي أواخر سنة 1907م، قرَّر عزيز عيد تكوين فرقته المسرحيَّة الخاصَّة. فلم يلبث أن ظهر «جوق عزيز عيد»، في شهر أيلول (سپتمبر) من السنة نفسها. وكان من الطبيعي أن ينضم الريحاني إلى هذه الفرقة التي تخصصت في تمثيل فارسات الكاتب الفرنسي جورج فيدو، مثل «گرنگوار» وهي من ترجمة عزيز عيد نفسه.
كان عزيز عيد شغوفًا بالكوميديا أكثر منه بِالميلودراما، مُتطلعًا إلى ترقية الكوميديا المصريَّة المحليَّة. لِذلك كان يعتقد أنَّهُ على الجُمهور أن يتعوَّد كوميديا أرقى من أُسلوب «الفصل المُضحك» والأوپريتات التي كانت الفرق الشاميَّة تُمثلها، إيمانًا منه بِحاجة الجمهور إلى مُشاهدة «الفارس» الفرنسي، لِيتعرَّف على موضوعات الحياة المُعاصرة وقواعد البناء الكوميديّ. ولمَّا كان الريحاني قليل الاهتمام بِالكوميديا، فإنَّهُ لم يلبث أن انفصل عن الفرقة. إذ كان – ككثيرين من أبناء جيله – مُتأثرًا بالرأي القائل بِأنَّ الدراما الجادَّة وحدها هي الجديرة بِالمُشاهدة. لكنَّهُ لم يلبث أن تحوَّل عن هذا الرأي بل إنَّهُ أخذ يُعارضه بِشدَّة. واستمرَّ هذا النمط التمثيلي يُسيطر على الريحاني، بحيثُ كان يستظهر قصائد هوگو وأشعار المُتنبي ولُزوميَّات أبي العلاء المعرّي، فكان ما أن يعود من عمله حتَّى يخلوا بنفسه في المنزل ويُلقي ويُمثِّل أمام المرآة، حتَّى ضجَّت والدته وكاد إخوته أن يهجروا المنزل، لكنَّهُ لم يكن يعبء بِتلك العراقيل، واستمرَّ يُرضي هوايته، كما ذكر في مُذكراته. استقال عزيز عيد من عمله في البنك سنة 1908م لِيتفرَّغ تمامًا للتمثيل، وانتقل بِفرقته المسرحيَّة إلى مسرح إسكندر فرح بِشارع عبد العزيز، وتشارك مع المُمثل القديم سُليمان الحدَّاد، وعرض رواياتٍ مُترجمة عن الفرنسيَّة منها: «ضربة مقرعة»، و«الابن الخارق للطبيعة»، و«عندك حاجة تبلَّغ عنها»، و«ليلة زفاف». وكان الريحاني بِحُكم ارتباطه برابطة الزمالة مع عزيز عيد في البنك تُسند إليه أدوار ثانويَّة صغيرة. ولم يكن انصراف الريحاني لِلمسرح يسمح لهُ بالانتظام في عمله بالبنك، ففُصل منه بعد قليل، بعد أن أصبح عدد أيَّام تغيُبه عن عمله لا يُطاق بالنسبة لِلإدارة، على أنَّ الريحاني أشار في مُذكراته أنَّ ما وُصف بأنَّهُ عمله في البنك لم يكن عملًا حقيقيًّا على الإطلاق، فقال: «وَلَم تَجِد إِدَارَةُ البَنكِ إِزَاءَ هَذِهِ الحَالَاتِ الصَّارِخَةِ إلَّا أن تًسْتَغنِي عَن عَمَلِي. وَأيُّ عَمَلٍ يَا حَسْرَة؟ هُوَّ أَنَا كُنت بَاشْتَغَل؟!».
مع فرقة سليم عطا الله
بعد فصله من البنك، أخذ الريحاني يُمضي أكثر أوقاته في المقهى المُقابل لِمسرح إسكندر فرح. وذات يوم، عرض عليه المُمثِّل الشَّامي أمين عطا الله الذي كان قد تعرَّف عليه في فرقة عزيز عيد – العمل بِفرقة أخيه سليم بِالإسكندريَّة، لقاء أربعة جُنيهات مصريَّة في الشهر، فقبل الريحاني على الفور، وكان ذلك أوَّل مُرتَّب ذو قيمة تناوله من التمثيل. وكانت أوَّل مسرحيَّة مثَّلها الريحاني هي مسرحيَّة «شارلُمان»، التي أُسند إليه فيها دور الإمبراطور الإفرنجي، وهو دورٌ ثانويّ. ويُذكر أنَّهُ أدى دوره بِنجاحٍ مُبهرٍ في ليلة الافتتتاح حتَّى طغى على البطل نفسه، أي المُدير سليم عطا الله الذي كان يُشارك بالتمثيل، وما أن أُسدل ستارُ هذا الفصل حتَّى هرع إلى الريحاني جمهرة من الكُتَّاب والأُدباء وأغلبهم من أصدقاء مُدير الفرقة وصافحوه مُهنئين ونصحوا المُدير بالاحتفاظ به لأنَّه سيكون – على حد قولهم – مُمثلًا لا يُشقُّ لهُ غُبار. غير أنَّ هذا النجاح يبدو أنَّهُ أثار عليه حقد المُدير سليم عطا الله، فقرر فصله.
مسيرته الفنيَّة مع فرقة جورج أبيض
بعد عودته إلى القاهرة، التحق نجيب الريحاني بِفرقة جورج أبيض، الذي كان قد ضمَّ – قُبيل ذلك – فرقته إلى فرقة سلامة حجازي. وكانت أوَّل مسرحيَّة يظهر فيها الريحاني هي «صلاح الدين الأيُّوبي»، وهي ميلودراما تاريخيَّة. وكان جورج أبيض يضطلع فيها بِدور الملك الإنگليزي ريتشارد الأوَّل قلب الأسد، بينما اختير للريحاني دورًا صغيرًا هو ملكُ النمسا، وكان كُل ما عليه أن يفعله هو أن يقف من جورج أبيض موقف المُبارز ويتكلَّم بضع كلماتٍ فقط. وكانت الحرب العالميَّة الأولى قد اشتعلت في ذلك الوقت (سنة 1914م)، وكانت الصُحف والمجلَّات المصريَّة والعُثمانيَّة والأجنبيَّة تنشر صُورًا لِمُلوك وأباطرة الدُول المُتحاربة، ومن بينها صورة الإمبراطور النمساوي فرانس جوزيف الأوَّل، فخطر للريحاني أن يتقمَّص شخصيَّة هذا الإمبراطور ما دام دوره هو «ملك النمسا»، فتبرَّج ووضع لحيةً اصطناعيَّة على وجهه، ثُمَّ خرج إلى المسرح حينما حان الوقت، فضجَّ الجمهور بالضحك، ويروي الريحاني في مُذكراته قصَّة هذه الحادثة فيقول: «اندَفَعَ جورج أَبيَض ثَائِرًا مِثلَ رِيتشَارد قَلب الأَسَد، فَفُوجِئ بِمَظهَرِي هَذا. وَتَبَخَّرَت حَمَاسَتُه، وَانطَفَأَت شُعلَتُه، وَأَحسَسْتُ بِأَنَّهُ يُغَالِبُ عَاصِفةً مِنَ الضَّحِك تَكَادُ تَتَفَجَّرُ عَلَى شَفَتَيهِ وَمِن أَسَارِيرِ وَجهِهِ!… كُلُّ ذَلِكَ وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي لَا أَبْتَسِمُ وَلَا أُخَالِفُ طَبِيْعَةَ المَوْقِف… أَقُولُ إنَّ جورج أبيض دَخَل ثَائِرًا، وَهُوَ يَصْرِخُ مُرَدِّدًا كَلِمَةَ رِيتشَارد المَأثُورَة: “وَيلٌ لِمَلِكِ النَّمسَا مِن قَلبِ الأَسَد!”… وَلَكِن وَيلٌ إيه وبتاع إيه. مَا خَلَاص مَا خَلَاص، جورج مَا بَاقاش جورج والمسرح بَقَا عيضه، والحَابل اختلط بالنابل زي ما بيقولوا». وعلى أثر ذلك الحادث، فُصل الريحاني من الفرقة، ولم يُصبح بلا عمل فقط، بل إنَّهُ وجد جميع الأبواب مُغلقة في وجهه كذلك.
فرقة الكوميدي العربي والتشارك مع عزيز عيد
بعد فصله من الفرقة، أخذ الريحاني يتردد على المقهى يوميًّا، لِيقضي أوقات فراغه. ولحق به عزيز عيد، الذي ترك هو الآخر فرقة جورج أبيض مع صديقته اللُبنانيَّة روز اليُوسُف، وجلس الاثنان يتشاوران في أمر مُستقبلهما، وسُرعان ما انضمَّ إليهما بعض المُمثلين الذين كانوا يُعانون الإفلاس والبطالة مثلهم، ومنهم: أمين صدقي، واستيفان روستي، وحسن فائق، وعبدُ اللطيف جمجوم، وكانوا جميعًا يتطلَّعون إلى تكوين فرقة جديدة. وذات يومٍ قدَّم لهم ثري من رُوَّاد المقهى عشرة جُنيهات، لِيبدءوا في تكوين الفرقة. فأنشأوا بِهذا المبلغ «فرقة الكوميدي العربي» في صيف سنة 1915م، تحت إشراف عزيز عيد. واستهلَّت الفرقة نشاطها في مسرح «برنتانيا» بِإحدى فارسات جورج فيدو، هي «خلِّي بالك من إميلي» (بالفرنسية: Occupe-toi d’Amélie) وهي من ترجمة أمين صدقي.
وأعلن عزيز عيد أنَّ مُشاهدة هذه المسرحيَّة مقصورة على الرجال فقط، إذ ما من سيِّدة مصريَّة مُحترمة كانت – حتَّى ذلك الحين – تجرؤ على حُضور عرض مسرحيَّة تُشيد بِمُغامرات مومس. وعلى الرُغم من طرافة موضوع المسرحيَّة، فإنَّ جُمهور الرجال أخفق في تذُّوق فيدو، لأنَّهُ لم يكن يتقبَّل عرضًا بلا موسيقى. كذلك هاجم النُقَّاد هذه المسرحيَّة بحُجَّة مُخالفتها «لِلواقع والمنطق والأخلاق». وبعد شهرين انتقلت الفرقة إلى مسرحٍ آخر أقل نفقات، وهو مسرح «الشانزليزيه» بِالفجالة. ولم يُكتب لِهذه المُحاولة النجاح، والسبب هو أنَّ فارسات عيد الفرنسيَّة، كانت تخدش حياء الجُمهور. وانخفض دخل الفرقة عمَّا كان عليه في مسرح «برنتانيا»، ممَّا أدَّى إلى توقُّف عُروضها، فاضطرَّ عيد إلى ضم فرقته إلى فرقة عُكاشة في 3 تشرين الثاني (نوڤمبر) 1915م المُوافق فيه 26 ذو الحجَّة 1333هـ، كما كان يفعل مُعظم أصحاب الفرق في ذلك الوقت. وفي نهاية الأمر، حلَّ فرقته، وعاد إلى عمله السَّابق بِفرقة أبيض.
ويرجع فشل مُحاولة عيد الثانية في مجال الكوميديا إلى سببين أساسيين: أولًا شُعور الجُمهور بالخجل أمام فارسات عيد الجريئة. حتَّى إنَّ عنوان إحداها، «يا ستِّي ما تمشيش كده عريانة» (بالفرنسية: Madame ne Marchez Pas Donc Toute Nue) أثار حملة نقد عنيفة في الصُحف والجرائد، إذ خشي البعض – بِوحي العنوان – أن تظهر مُمثلة عارية على المسرح. ثانيًا اعتقاد الجُمهُور أنَّ الميلودرامات الموسيقيَّة وتراجيديَّات جورج أبيض الكلاسيكيَّة هي وحدها الأشكال المسرحيَّة الجديرة بالاحترام، وأنَّ الكوميديا – وبِخاصَّةً الكوميديا المكتوبة بالعاميَّة – لا تستحق الاهتمام. وعلى الرُغم من هذا الفشل، فإنَّ هذه التجرُبة عادت على الريحاني بِفائدةٍ كبيرة، إذ تلقَّى في فرقة عيد تدريباته الفنيَّة الوحيدة في حياته. فتعلَّم فن الإخراج، وتعرَّف على أُسلوب وتقنيَّة الفارس الفرنسي، الذي قُدَّر لهُ أن يكون ذا الأثر الأكبر على أغلب مسرحيَّاته التالية، وأخيرًا تأكَّد الريحاني من أنَّ موهبته التمثيليَّة تتألَّق في الكوميديا، وذلك بعد براعته في تأدية دور «پوشيه» والد إميلي، وقال بالنسبة لِهذا الأمر: «إنَّ نَجَاحي – كَمَا يَقُولُون – فِي هَذَا الدًّور جَاءَ عَجيبًا مُذهِلًا لِي. إِنِّي أُحِبُّ الدّرَامَا وَأُجِيدُهَا، وَمَا تَوَقَّعتُ أَبَدًا أن يَنَالَ تَمثِيلِي لِدَورِ “پوشيه” كُلُّ هَذَا النَّجَاحِ الكَبِير الذي أَحْرَزتُه فِي تِلكَ الليلَة.. وَلَقَد لَفَت نَجَاحِي وَإِقبَالُ الجُمهُورِ وَتَهلِيلِهِ وَصِيَاحِهِ أنظَارَ زُمَلَائِي فِي الفِرقَة، وَخَاصَّةً صَدِيقِي عِيد. وَكَانَ سَبَبًا فِي إِصرَارِ عَزيز عَلَى تَمثِيلِي الأَدوَارَ الفُكَاهِيَّةَ دَائِمًا». على أنَّ الريحاني لم يلبث أن اختلف مع عيد في إحدى المسائل الحيويَّة. فقد كان يرى أنَّ اقتباس المسرحيَّات الفرنسيَّة ينبغي أن يتماشى مع ذوق المُجتمع المصري والعربي والشرقي عُمومًا، ومع عاداته وتقاليده وطباعه، وألَّا تخرج هذه المسرحيَّات مُطابقة لِصُورتها الأصليَّة. واتَّسعت هُوَّةُ الخلاف بينهما، حتَّى اضطرَّ الريحاني إلى ترك الفرقة في شهر نيسان (أبريل) سنة 1916م بعد أن أتمَّ تدريباته، مُكملًا بذلك المرحلة الأولى من حياته في المسرح، مُؤهلًا لِكي يشق طريقه الخاص.
مرحلة نُضوج الريحاني كفنَّان كوميدي (1931 – 1935م)
طرأ تحوُّلٌ مُدهشٌ على مسيرة الريحاني الفنيَّة خلال سنة 1931م، إذ اقتبس مسرحيَّة «توپاز» لِمارسيل پانيول. وكانت هذه أجرأ خُطوة يتخذها نحو الكوميديا الجادَّة، وقد اعتبرها الخُبراء والباحثون ذات أهميَّة بالغة في مسيرة الريحاني – على الرُغم من فشلها – لأنها تشهد بداية نضج الريحاني كفنَّان كوميدي. ذلك أنَّ الأخير انتقل بِتلك المسرحيَّة إلى مفهومٍ جديدٍ في مجال الكوميديا، لِأنَّ «توپاز» ساتير أخلاقيَّة رقيقة أكثر انتماءً إلى الدراما الاجتماعيَّة. فهي تتناول الفساد في الدوائر الماليَّة في فرنسا والمُجتمع الفرنسي بِوجهٍ خاص، لِهذا فالمال هو موضوعها الأساسي. وقد ركَّز الريحاني في نصِّه المُقتبس على مُعالجة مضامين أخلاقيَّة اجتماعيَّة، بِعنايةٍ وجديَّةٍ لا تتركان معها مجالًا لِلكوميديا، ورسم السيناريو بِشكلٍ واقعيٍّ يعكس مُجتمع المدينة المصريَّة. ولم يكن تطوُّر الكوميديا الجادَّة عند الريحاني – في ثلاثينيَّات القرن العشرين – يُمثِّلُ ظاهرةً مُنعزلة. ذلك أنَّ الوعي القومي في مصر كان في نُموّ. وكانت جميع مظاهر الحياة والآداب والفُنون قد أخذت تخلع عنها الثوب الأوروپي رُويدًا رُويدًا وتتجه نحو عكس مظاهر الحياة والثقافة العربيَّة والمشرقيَّة، وأصبح البحث عن الذَّات القوميَّة والحاجة إلى تأكيدها يُشغل بال غالبيَّة المُفكرين، وفي مُقدمة هؤلاء توفيق الحكيم – الذي كان يُطالب بِإحياء كُل ما هو مصري – فأقدم على كتابة تراجيديا مصريَّة بِعنوان «أهل الكهف»، قائلًا أنَّهُ كتبها على «أُسسٍ مصريَّة». ومن هؤلاء المُفكرين أيضًا طٰه حُسين الذي كان يرى أنَّ جوهر الثقافة المصريَّة هو في تُراثها الفرعوني والإسلامي وفي استعارة أفضل ما في الحياة الأوروپيَّة الحديثة. وهذا الوعي القومي، لم تُعبِّر عنهُ كتابات المُفكرين والمُؤلفين المسرحيين فحسب، بل عبَّر عن نفسه أيضًا بِصُورةٍ أكثر ظُهورًا، في المسرح. فقد ازداد نُقَّادُ المسرح إلحاحًا في المُطالبة بِمسرحٍ مصريٍّ صميم. أمام هذا الواقع، رأت الحُكومة المصريَّة أنَّ الاعتناء بالمسرح واجبٌ وضرورة كونه حصنٌ للثقافة الوطنيَّة والقوميَّة، فأنشأت سنة 1930م «المعهد العالي للتمثيل»، وهو الأوَّل من نوعه في تاريخ المسرح المصري، وخصَّصت إعالة ماليَّة سنويَّة لِلفرق المسرحيَّة. وبهذا، يصحُ القول بأنَّ الحركة الأيديولوجيَّة في تلك الفترة سمحت للريحاني أن يرتفع بِأعماله إلى مُستوى المسرح الاجتماعي الأخلاقي، فأطلق على مسرحيَّته المُقتبسة عن «توپاز» عنوان «الجنيه المصري»، وناقش فيها مادية المجتمع وفساده بِمرارة المثالي البائس. وقد بدأ عرض هذه المسرحيَّة في 3 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1931م المُوافق فيه 23 رجب 1350هـ، بِمسرح «الكورسال» الأرُستقراطي. وقد سقطت المسرحيَّة على الفور، وبلغ إيراد الافتتاح ثلاثين جُنيهًا، ثُمَّ انخفض في الليلة التالية إلى ستَّة جُنيهات، وإلى ثلاثة جُنيهات في الليلة الثالثة. فقد استقبل الجُمهُور المسرحيَّة بِفُتور، واختلفت بِشأنها آراءُ النُقَّاد، فالمسرحيَّة – من وجهة نظر الجُمهُور – غير مُشوِّقة، لِخُلوِّها من «الفارس» والمُوسيقى، اللذين كانا – حتَّى ذلك الوقت – عُنصرين رئيسيين في كوميديا الريحاني، وقد اعتاد عليها الجُمهُور طيلة أربعين سنة من تاريخ المسرح المصري، كما لم تضم شخصيَّات نمطيَّة ومواقف مُضحكة أو هزليَّة.
كانت خيبة الأمل التي تلقَّاها الريحاني بعد فشل مسرحيَّته مُرَّةً للغاية، ولأنَّهُ كان واقعًا تحت رحمة الجُمهُور، فإنَّهُ لم يكن يستطيع اعتزلهم ومفاهيمهم، أو أن ينتظر مجيء جُمهُورٍ أكثر نُضجًا. وهو على عكس مُعاصريه – مثل توفيق الحكيم – لم يكن يستطيع أن يكتب للمدى البعيد، فقد كان مُرتبطًا بالمنصة مُباشرةً. لِذلك وصف مسرحيَّته التالية بِأنَّها «انتقامه من الجُمهُور»، وهي استعراض فرانكوعربي بِعنوان «المحفظة يا مدام». وقد جاءت شبيهة بِإنتاج العشرينيَّات، من حيث أنَّها تتألَّف من سلسلة من المشاهد المُفكَّكة المليئة بالنِّكات والمُؤثرات الكوميديَّة والاستعراضات الرَّاقصة. وكان المسرح يحتشد بالمُتفرِّجين كُل ليلة. والعرض الثالث في ذلك الموسم هو مسرحيَّة «الرفق بالحموات» لِأمين صدقي. ويبدو أنها لم تلقَ نجاحًا كبيرًا، بِدليل أنَّ عرضها لم يستمر سوى أُسبوعٌ واحد. وأخيرًا، أخرج الريحاني – في شهر آذار (مارس) – استعراضًا موسيقيًّا آخر بِعنوان «أولاد الحلال». وبِهذه المسرحيَّة انتهى الموسم. وقد ذاق الريحاني المرارة لِسُقوط «الجُنيه المصري»، لِأنَّهُ أحسَّ بِإخفاقه في الارتفاع بِذوق الجُمهُور وأنَّهُ فقد معهُ الأمل في تحقيق ذلك. وقد ضاعف من مرارته، أنَّ الدولة منحتهُ الجائزة الرابعة فقط عن هذا الموسم، على حين نال يُوسُف وهبي الجائزة الأولى. وقد اضطرَّ الريحاني إلى الاستدانة لِتغطية نفقات هذه المسرحيَّة. نتيجة هذا الفشل وما تلاه من إحباط، فكَّر الريحاني باعتزال المسرح. وبعد فترةٍ طويلةٍ من الراحة، وافق على العمل بِمسرح «الفانتازيو» الصيفي بالجيزة، الذي عُرف باسم «سمر فوليز» (بالإنجليزية: Summer Follies). هُناك كانت الفرقة تُمثِّل – في أغلب الأيَّام – مسرحيَّة مُختلفة في كُل ليلة. وكان يُقدَّم بِمُصاحبة العُروض – التي كانت تتراوح بين مسرحيَّاتٍ قديمةٍ مُعادة مثل «ياسمينة» وأُخرى حديثة – استعراضاتٍ راقصة وأغاني ومونولوجات. وقد صادف الموسم الصيفي نجاحًا عظيمًا بِسبب إقامة العُروض في الهواء الطلق وانخفاض أسعار الدُخول بِأكثر من نصف أسعار المسارح الشتويَّة. لكنَّ الريحاني أحسَّ – مع اقتراب موسم الشتاء – بأنَّهُ لا يستطيع مُواجهة جُمهور القاهرة. لِهذا قرَّر القيام بِرحلةٍ إلى بلاد المغرب: تُونُس والجزائر ومُرَّاكش. وكان يأمل من وراء هذه الرحلة دعم مركزه المالي المُهتز. وعندما وافق أحد الخواجات على تمويل الرحلة في مُقابل نسبة من الأرباح، أسرع بالسفر في شتاء سنة 1932 – 1933م، بعد أن تمَّ الصُلح بينه وبين بديعة مصابني، التي رافقته في رحلته هذه إلى المغرب.
استُقبل الريحاني بِحفاوةٍ في البُلدان التي زارها. هُناك مثَّل بعض أوپريتاته القديمة من أمثال: «الشَّاطر حسن» و«الليالي الملاح» و«ليالي العز» و«البرنسيس». وقد مثَّل هذا اللون بالذَّات لِأنَّ الجُمهور العربي غير المصري كان ما زال يتذوقه. لكنَّ الرحلة انتهت بِكارثة ماليَّة، فقد سبَّب لهُ المُتعهِّد المُحتال خسائر ماليَّة فادحة، حتَّى إنَّهُ أفلس في نهاية الرحلة. وعندما عاد إلى القاهرة – في شهر نيسان (أبريل) 1933م – بدأ يُواجه مزيدًا من المتاعب، لِأنَّ الحُكومة المصريَّة حرمته من المُساعدة الماليَّة عن تلك السنة، نظرًا لِتغيُّبه عن الموسم المسرحي. بِجانب هذا، فقد تشاجرت معه بديعة وشنَّت عليه حملة في الصُحف، مُتهمةً إيَّاه بِأنَّهُ فنَّانٌ كسولٌ. هذه العوامل وحدها، ضاعفت آلامه وجعلته أشد عداءً لِلمسرح. وفكَّر – مرَّة أُخرى – في الاعتزال بحُجَّة أنَّهُ بدأ يكره المسرح. وفي تلك الفترة، أتاه عرضٌ من أحد الأثرياء الشوام المدعو «إميل خوري»، والمُقيم في فرنسا، يدعوه لِتمثيل فيلم عربي في باريس من إنتاج شركة «إخوان جومون» الفرنسيَّة، فقبل على الفور. وكان الريحاني مُفلسًا تمامًا حتَّى أنَّ خوري أرسل إليه تذكرة السفر، ولمَّا وصل إلى باريس وقَّع عقدًا لِتمثيل أفلام ثلاثة لِمُدَّة ثلاث سنوات سنويًّا. والظاهر أنَّهُ لم يكن ينوي العودة إلى المسرح. وحمل الفيلم الأوَّل عنوان «ياقوت»، وتناول قصَّة موظف مصري طيِّب يشغل وظيفة مُتواضعة، وفجأة يبتسم لهُ الحظ ويُصبح ثريًّا. ووصف الريحاني هذا الفيلم أنَّهُ جاء هزيلًا، وتمَّ بإمكانيَّاتٍ فقيرة. لكنَّ عزاءه الوحيد هو أنَّ الفيلم ملأ جُيوبه الخاوية بالمال. وفي باريس تلقَّى الريحاني برقيَّة تتعجَّل عودته إلى القاهرة، ويعرض عليه مُرسلها العمل بِمسرح «برنتانيا»، ففرح الريحاني فرحًا كبيرًا لِهذه الفُرصة. فقد كان كارهًا للسينما على الدوام، وتضاعف كُرهه لها بعد فيلم «ياقوت»، كما كان يشعر بالحنين إلى المسرح كما قال في مُذكراته: «… فَفَكَّرتُ فِي ذَلِكَ الفَنِّ الجَمِيلِ الذي أَحبَبْتُه مِن كُلِّ قَلبِي، وَتَمَلَّكت هِوَايَتَهُ نَفسِي، وَاحتَلَّ حُبَّهُ فُؤَادِي، حَتَّى صَارَ كَالحَسنَاءِ التي أَخلَصَت لِي وَأخلَصتُ لَهَا. فَهَل أَستَطيعُ هَجرَ هَذهِ المَعبُودَة؟ كَلَّا… وَأَلفُ مَرَّةٍ كَلَّا». من أجل هذا أبحر الريحاني عائدًا إلى مصر في شهر كانون الأوَّل (ديسمبر) 1933م.
وفي 11 آذار (مارس) 1934م المُوافق فيه 26 ذو القعدة 1352هـ، عاد الريحاني إلى المسرح بالكوميديا الجديدة: «الدُنيا لمَّا تضحك»، وقد حقَّقت المسرحيَّة نجاحًا طيبًا، كما كان لِعودة الريحاني وقعٌ عظيمٌ في نُفوس المُتفرجين، الذين امتلأ بهم المسرح ليلة الافتتاح، ويصف الريحاني في مُذكراته هذا الحدث قائلًا أنَّ الجُمهُور استقبلهُ بِعاصفةٍ من التصفيق عقدت لسانه، فبكى مُتأثرًا. وغفر الريحاني لِلجُمهُور كُل ما بدر منه، وخفَّت – بِمُرور الوقت – المرارة التي ذاقها بِفشل «الجُنيه المصري». وفي هذا الموسم ضمَّ الريحاني إلى فرقته عدَّة أسماء جديدة، منها: بشارة واكيم الذي كان يتمتَّع بِموهبة الحُضور الكوميدي – على المنصَّة – بِدرجةٍ تلي الريحاني مُباشرةً، كما ضمَّ ماري مُنيب التي تخصصت في أدوار الحماة، بالإضافة إلى فؤاد شفيق، ومحمود رضا، وتوفيق صادق، وحسن فائق، وجُبران نعُّوم، وعبدُ الفتَّاح القصري. وفي الفترة الباقية من الموسم، مثَّل الريحاني – بدلًا من «الدُنيا لمَّا تضحك» – مسرحيَّة من لونه القديم، ثُمَّ اتُفق على إحياء موسم الصيف بِمسرح «لوناپارك» الصيفي بالإسكندريَّة. وهُناك ظلَّت الفرقة تعمل حتَّى نهاية شهر أيلول (سپتمبر). وفي تشرين الأوَّل (أكتوبر)، وقَّع الريحاني عقدًا مع فتاة شاميَّة جميلة هي زينب شكيب التي اشتهرت باسم «زوزو شكيب»، وفي وقتٍ لاحق انضمَّت إلى الفرقة شقيقتها أمينة التي اشتهرت باسم «ميمي شكيب». وفي تلك الفترة تقريبًا انضمَّ استيفان روستي أيضًا إلى الفرقة، وأصبح عُضوًا دائمًا بها. وقد كتب بديع خيري – في صحبة هذه الفرقة القويَّة – كوميديتين جديدتين لِموسم 34 – 1935م، أولاهُما: «الشَّايب لمَّا يدلَّع»، التي اعتبرها الريحاني كوميديا اجتماعيَّ أخلاقيَّة راقية. أمَّا المسرحيَّة التالية فكانت استعراض بِعنوان «الدُنيا جرى فيها ايه؟»، التي مُثِّلت في 23 شُباط (فبراير) 1935م المُوافق فيه 20 ذو القعدة 1353هـ، وقد أحيا فيها الريحاني صيغة «كشكش بك». وقُرب نهاية شُباط (فبراير)، مرُض الريحاني أثناء العرض. وعندما علم الجُمهور أنَّ نُقودهم ستُرد إليهم، أصرّوا على مُواصلة العرض بِدافع من حماسهم الشديد للريحاني. واستمرَّ الريحاني في تمثيل دوره تلك الليلة. لكنَّ الفرقة توقفت في الأيَّام التالية، حتَّى شهر آذار (مارس). ولمَّا استردَّ الريحاني صحته، قدَّم هاتين المسرحيتين في جولةٍ بالأقاليم المصريَّة. وبانتهاء هذا الموسم انتهت تلك المرحلة من حياة الريحاني الفنيَّة، واقترب من قمَّة تطوُّره وعطاءه كفنانٍ ناضج.
مرحلة الفنَّان الناضج (1935 – 1939م).
خلال الفترة المُمتدَّة بين عاميّ 1930 و1952م، تعاقبت على مصر عدَّة أزمات اقتصاديَّة نجم عنها الكثير من الأزمات الاجتماعيَّة والمشاكل المعيشيَّة، وفي تلك الفترة نمت البُرجوازيَّة المصريَّة بشكلِ ملحوظ، نتيجةً لانتشار التعليم من جهة، ولِلتوسُّع في إقامة الصناعات من جهةٍ أُخرى. وحتَّى سنة 1930م كانت غالبيَّة دور الصناعة المصريَّة ملكًا للأجانب الأوروپيين، ولكنَّ المصريين أخذوا – بعد سنة 1930م – يملكون العديد من المُنشآت الحديثة. وقد أدَّى اتساع رقعة المُستهلكين الوطنيين لِلسلع الحديثة، إلى تنمية نشاط التُجَّار والماليين المصريين، الذين كونوا مع الصناعيين طبقة غنيَّة. وأصبح صغار الموظفين والعاملين عُرضة استغلال أصحاب الرُتب الكبيرة، كما ترافق كُل ذلك مع فسادٍ سياسيٍّ في دوائر الدولة. فشكَّلت كُل تلك المواضيع مادَّةً دسمةً اسنتد عليها الريحاني في مسرحيَّاته التالية، لِتسليط الضوء على مشاكل المُجتمع العديدة. حملت أولى مسرحيَّات الريحاني لِتلك الفترة عنوان «حُكم قراقوش»، وهي تُعتبرُ ساتيريَّة، وتتحدث عن الاستبداد السياسي الذي جرى في عهد رئيس الوُزراء إسماعيل صدقي باشا، وتسخر منهُ ومن الملك فُؤاد الأوَّل وسائر حاشيته، بعد أن أقدم صدقي على إلغاء النظام الديمُقراطي من خِلال حل البرلمان وإلغاء دُستور سنة 1923م الذي كان يحمي كُل الحُريَّات، واستبدل به دُستورًا آخرًا، وأطلق يد الملك، وعدَّل النظام الانتخابي وأخضعهُ لِرقابةٍ صارمة. ولم تكن الأحزاب السياسيَّة المُتشاحنة تجرؤ على الثورة، خشية أن يؤدي ذلك إلى مزيدٍ من التدخُّل البريطاني. وهكذا انغمس الملك والحُكومة بالصراع على السُلطة مع مُختلف الأحزاب ذات المطامع السياسيَّة، مُتناسين شقاء الجماهير وبؤسها. ومن تلك الشقَّة الهائلة – التي كانت تفصل بين الحاكم والمحكوم – وُلدت الفكرة الرئيسيَّة لِمسرحيَّة «حُكم قراقوش»، التي قُدِّر لها أن تكون دُرَّة أعمال الريحاني المسرحيَّة. أدَّى الريحاني في هذه المسرحيَّة دور «بُندق»، وهو إنسانٌ فقير سيِّء الحظ، يجد نفسه – بِتدخُلٍ من القدر – في قصر السُلطان، حيثُ يؤدي دور الحاكم لِفترةٍ قصيرة. وتجري أحداث المسرحيَّة في أثناء حُكم بهاء الدين قراقوش، الذي عيَّنهُ السُلطان صلاح الدين الأيوبي حاكمًا على القاهرة، في القرن الثاني عشر الميلاديّ، واشتهر بِقسوته وشدَّته حتَّى أصبحت عبارة «حُكم قراقوش» كناية مصريَّة خُصوصًا وعربيَّة عُمومًا يُكنى بها الاستبداد السياسي، مما كان يتناسب مع تلك الفترة من تاريخ مصر. كانت مسرحيَّة «حُكم قراقوش» أقوى ساتيرات الريحاني حتَّى ذلك الوقت، وقد نجحت على الفور، وغصَّت الصالة بالمُتفرجين كُل ليلة. وقد شاهد إسماعيل صدقي باشا هذه المسرحيَّة، وهنَّأ الريحاني عليها شخصيًّا. وقد عُرضت تلك المسرحيَّة على مسرح «ريتس» – الذي عُرف بِمسرح رمسيس سابقًا – الذي انتقل إليه الريحاني مع فرقته واستمرَّ يعمل به حتَّى اعتزاله.
الريحاني وبعض أعضاء فرقته يُؤدون أدوارهم في مسرحيَّة «قسمتي» سنة 1936م.
استمرَّ عرض «حُكم قراقوش» حتَّى 4 كانون الثاني (يناير) 1936م المُوافق فيه 10 شوَّال 1354هـ، وتلتها مسرحيَّتان جديدتان. أولاهُما مسرحيَّة «مين يعاند ست»، التي مُثِّلت في 23 كانون الثاني (يناير) 1936م المُوافق فيه 29 شوَّال 1354هـ. والمسرحيَّة الثانية هي «فانوس أفندي»، التي بدأ عرضها في 16 نيسان (أبريل) 1936م المُوافق فيه 5 صفر 1355هـ. وانتهى الموسم في شهر نيسان (أبريل)، واحتفل الريحاني وخيري بنجاحه بأن قاما بِإجازةٍ قصيرةٍ إلى قبرص. وفي شهر آب (أغسطس) 1936م، وقَّع الريحاني عقدًا مع مسرح «الهمبرا» بالإسكندريَّة. وكانت فرقته تتألَّف حينها من: عبدُ العزيز خليل، واستيفان روستي، وحسن فائق، وفيليپ كامل، وعبدُ اللطيف جمجوم، ومُحمَّد حسن الديب، وبشارة واكيم، ومُحمَّد كمال المصري، وعبدُ الفتَّاح القصري، وماري مُنيب، وميمي شكيب، وزوزو شكيب، وزينات صدقي، ومُحمَّد مُصطفى، وسيِّد سُليمان، ومُحمَّد حلمي، وعبدُ العزيز يُوسُف، ومُحمَّد لُطفي. وقد ظلَّت هذه الفرقة تعمل دون تغييرٍ يُذكر، حتَّى وفاة الريحاني. وفي تشرين الثاني (نوڤمبر) 1936م، افتتح الريحاني موسمه الشتوي بِمسرحيَّةٍ جديدةٍ عنوانها «قسمتي». ولقد أحبَّ الجُمهُور المسرحيَّة الأخيرة، كما أطرى النُقَّاد واقعيَّتها ونكاتها الفكهة المرحة، وقد وُصف الحوار بِأنَّهُ مُضحكٌ لِلغاية «حتَّى إنَّهُ لم يدع لِلمُتفرِّج لحظةً واحدةً يستريح فيها من الضحك المُتصل». ووصف ناقدٌ آخر الحوار الذي جاء بالمسرحيَّة بأنَّ كُل لفظ فيه أتى يحمل معنى ومغزى، وكُل حادثةٍ طوت عبرًا وعظة، مُعتبرًا رواية الريحاني من الروايات العالميَّة. وعقب انتهاء عرض مسرحيَّة «قسمتي»، مُثِّلت مسرحيَّة جديدة بِعنوان «مندوب فوق العادة»، وكما حدث لِمسرحيَّة «قسمتي»، فقد أثنى عليها النُقَّاد ثناءً عطرًا لِنكاتها وحوارها الذكي، وأشار كُل من شاهد المسرحيَّة أنَّ تمثيل الريحاني يقترب من الطبيعة. وقد أثنى نُقَّادٌ آخرون على الريحاني من أجل اللون المحلِّي الصادق الذي انفردت به مسرحيَّاته، وسمات شخصيَّاته الواقعيَّة. كذلك امتدحت كُل المقالات النقديَّة الريحاني المُمثِّل، كما امتدحت المسرحيَّة. حتَّى صحيفة «المنبر» – التي كانت قد هاجمته بِقوَّة في أوائل العشرينيَّات – عادت فلقَّبته «أُستاذ الكوميديا في مصر». وقد كان لِنجاح هذه المسرحيَّات أبلغ الأثر في رفع الروح المعنويَّة لِلريحاني، ممَّا جعلهُ أن يُقرر أن يستضيف جُمهُوره لِمُشاهدة استعراض مُمتع حول شخصيَّة «كشكش بك» المحبوبة. وهذا الاستعراض بِعنوان «الدُنيا على كف عفريت»، وهو عبارة عن كوميديا موسيقيَّة كاملة، مكتوبة على طريقة استعراضات العشرينيَّات، وفيها طرق الريحاني موضوع المال من جديد، فشنَّ عليه أعنف حملاته مُبينًا كيف أنَّهُ المسؤول عن جميع الشُرور بالمُجتمع، وأنَّهُ مسؤولٌ عن انحراف العدالة. وقد ظفرت هذه المسرحيَّة بِثناء النُقَّاد. وبانتهاء عرض «الدُنيا على كف عفريت»، انتهى موسم 36 – 1937، الذي كان من أنجح المواسم التي قدَّمها الريحاني، ونال عنهُ الريحاني تقدير الجُمهُور والنُّقَّاد كفنَّانٍ موهوب. وفي سنة 1937م أيضًا، انتهى الريحاني من كتابة مُذكراته، وكان قد بدأ بِنشرها مُسلسلة بِمجلَّة «الاثنين» مُنذ سنة 1936م.
نجيب الريحاني يُؤدي دور السُلطان في فيلم «سلامة في خير»، إنتاج سنة 1937م.
وفي موسم 37 – 1938، عاد الريحاني إلى السينما. وكان يكره هذا الفن، لكنَّهُ كان يرى فيه غولًا يجب اللحاق به. ومن ثُمَّ، كان عليه أن يُواجه تحدِّي العمل في مجالٍ آخر. وكان فيلمه السابق حامل عنوان «بِسلامته عايز يتجوز» والذي أُنتج سنة 1934م، قد أثبت أنَّهُ مُمثلٌ عاديّ، وأشار الريحاني في مُذكراته أنَّ ذاك الفيلم كان فاشلًا للغاية، حتَّى أنَّهُ كان يود أن يضرب الريحاني لو كان هو مُتفرجًا. وفي الوقت نفسه لم يكن يُريد أن يُقال عنه أنه فشل كمُمثل سينمائيّ، لِذلك قرَّر خوض هذا المجال مرَّة أُخرى. حمل الفيلم التالي عنوان «سلامة في خير»، وتعاون الريحاني مع بديع خيري على كتابته، مُعتمدان في ذلك على نص مسرحيَّة «قسمتي». وقد ترك المُخرج للريحاني مُطلق الحُريَّة في أثناء التصوير، حتَّى يرضى عن الفيلم. أشاد الناقدون بِهذا الفيلم نظرًا لِمهارة اقتباس القصَّة للشَّاشة، وإلى ارتفاع مُستوى الإخراج، وإجادة المُمثلين أدوارهم بشكلٍ كبير، بما فيهم الريحاني الذي أظهر تفوُّق أدائه الكوميدي الواقعي، من خلال عدَّة أُمور، فقد صرَّح مُعاصروه – الذين عملوا معهُ في الفيلم – أنَّ الريحاني لبس بِالفعل حذاءً ضيقًا في مشهد كان يتطلَّب منه أن يبدو مُنزعجًا من الحذاء الجديد الذي لم يعتد أن يلبس مثله، كما كان يتعمَّد ضبط عمامته الهنديَّة – التي يتخذها السُلطان في الفيلم غطاءً لِرأسه – كما لو كانت طربوشًا، وهو الغطاء الذي تعوَّد أن يُغطِّي به رأسه في حياته اليوميَّة كمُوظف بسيط. وفي أثناء تصوير فيلم «سلامة في خير» – الذي فُرغ من تمثيله في شهر تشرين الثاني (نوڤمبر) 1937م – كان الريحاني يعمل بِأحد المسارح الصيفيَّة بِالإسكندريَّة. وعندما حان موعد افتتاح موسم 37 – 1938 بِمسرحه، لم يكن لديه مسرحيَّة جديدة لِيُقدمها، فاضطرَّ إلى تقديم عرض «قسمتي» في الافتتاح، وقد ظلَّ المسرح طوال عرضها كامل العدد. وأخيرًا مثَّل الريحاني في 6 كانون الثاني (يناير) 1938م المُوافق فيه 5 ذو القعدة 1356هـ، واحدة من أكثر كوميدياته شعبيَّة هي «لو كُنت حليوه»، التي تعتمد في موضوعها على كوميديا فرنسيَّة بِعنوان «بيشون» (بالفرنسية: Bichon) لِجان فيليكس ديلوتراز. وفي تلك المسرحيَّة سلَّط الريحاني الضوء على نظام الوقف في مصر لِيُبرهن أنَّ إدارة الوقف وتوزيع إيراداته، كانت تتم بِطريقةٍ مُريبة، ولِعب في المسرحيَّة دور كاتب حسابات بسيط هو «شحاته أفندي». وقد جاء في إحدى المقالات النقديَّة أنَّ المُتفرِّج كان يشعر في وُجود شحاته أفندي – الكاتب البائس – أنَّهُ أمام شخصيَّة يراها كُل يوم. وفي تلك الفترة، بلغ الريحاني مكانةً رفيعةً جدًا بين جميع الفنانين المصريين، حيثُ أنَّهُ أخذ يُدعى إلى البلاط الملكي لِلتمثيل أمام الأُسرة الحاكمة، وكانت أوَّل مرَّة له في شهر شُباط (فبراير) من نفس السنة، عندما دُعي لِتقديم عرض في مُناسبة عيد ميلاد الملك فاروق. وقد أشارت الصحافة المصريَّة إلى هذا الحدث باعتباره أوَّل مرَّة ينال فيها فنان مصري مثل هذا الشرف.
وفي شهر نيسان (أبريل) 1938م، كتب الريحاني وخيري مسرحيَّة جديدة بِعنوان «الستَّات ما يعرفوش يكدبوا». وهي كوميديا خفيفة، تعتمد على مواقف وشخصيَّات مغلوطة، وتقول فكرتها الأساسيَّة أنَّ النساء كاذبات بالفطرة. وفي تشرين الثاني (نوڤمبر)، أخرج الريحاني ساتيرته التالية حاملة عنوان «استنَّى بختك». وفيها حوَّل الريحاني دفَّة الهُجوم إلى السياسة الداخليَّة والمُعاملات التجاريَّة المشبوهة، في مجالات الصناعة والتجارة النامية. بعد ذلك أخرج الريحاني مسرحيَّةً جديدةً بِعنوان «الدلُّوعة»، وهي تسخر من فتاة غنيَّة خليعة، كما تُصوِّر فساد الجهاز البيروقراطي وتعنُّت صغار الموظفين. وفي أثناء عرض المسرحيَّة، مرُض الريحاني مرضًا شديدًا، نُقل على أثره إلى المُستشفى لِعلاجه. وبعد شفائه، وقَّع عقدًا لِتمثيل فيلمٍ آخر باستُوديو مصر عنوانه «سي عُمر». وظلَّ يعمل بِالفيلم خِلال صيف سنة 1939م، حتَّى انتهى من تصويره مع بداية الخريف. وعلى الرُغم من انشغال الريحاني في تصوير فيلم «سي عُمر»، فقد استطاع أن يشترك مع بديع خيري في كتابة مسرحيَّة جديدة، لِيفتتح بها موسم 39 – 1940. وقد مُثِّلت المسرحيَّة في صورة استعراض بِعنوان «ما حدِّش واخد منها حاجة»، انتقد فيها الريحاني بعض تقاليد الحياة المصريَّة، كاحتفالات الزواج والمآتم.
الأعمال الأخيرة (1939 – 1949م)
عقب الاستعراض الأخير، مثَّل الريحاني في 6 نيسان (أبريل) 1940م المُوافق فيه 28 صفر 1359هـ مسرحيَّة بِعنوان «حكاية كُل يوم»، وتلتها مسرحيَّة «مدرسة الدَّجَّالين» في نهاية سنة 1940م. وفي المسرحيَّة الأخيرة، يسخر الريحاني من صناعة السينما في مصر. بعد ذلك أخرج مسرحيَّة «ثلاثين يوم في السجن»، التي كتبها الريحاني من خلال موضوع اقتبسه عن مسرحيَّة فرنسيَّة بِعنوان «عُشرون يومًا في الظل» (بالفرنسية: Vingt Jours à L’ Ombre). وتلى هذه المسرحيَّة ساتير آخر بِعنوان «ياما كان في نفسي» أُخرج في شهر كانون الثاني (يناير) 1942م، ومُثِّل بِدار الأوپرا. بعد ذلك، استضافت دار الأوپرا فرقة الريحاني في عدَّة مُناسبات، منها افتتاح المسرحيَّة الجديدة «حسن ومُرقص وكوهين» التي مُثِّلت في 9 آذار (مارس) 1943م المُوافق فيه 3 ربيع الأوَّل 1362هـ. واعتُبرت تلك المسرحيَّة إحدى أروع مسرحيَّات الريحاني على الأطلاق، وكانت أبرز دليل على بُلوغه قمَّة تطوُّره كساتيرست اجتماعي. ويُبرهن فيها الريحاني على أنَّ كُل الفُروق – حتَّى الفُروق الدينيَّة – تتلاشى بِتأثير المال. وقال بديع خيري أنَّ الفكرة خطرت للريحاني عندما ذهب وإيَّاه في إحدى المرَّات لِزيارة مريض في مُستشفى بِالفجالة. وفي أثناء سيرهما – بعد خُروجهما من المُستشفى – جذبت انتباه الريحاني لافتة متجر قريب كان ملكًا لِمسيحيّ ومُسلم. وفكَّر الريحاني مليًّا أمام هذا المتجر. فقد لاحظ كيف أنَّ الفُروق الدينيَّة ذابت بسُهولة وسط مصالح العمل، وأضاف قائلًا، إنَّ الأمر أدعى للتسلية حتمًا، لو كان للمسيحي والمُسلم شريك يهودي. وقد حقَّقت مسرحيَّة «حسن ومُرقص وكوهين» شعبيَّة ضخمة، فقد ظلَّت تُمثَّل بِدار الأوپرا طوال شهر آذار (مارس). وفي نيسان (أبريل) انتقل عرضها إلى مسرح «ريتس». وفي نهاية أيَّار (مايو)، سافر الريحاني لِيُمثل المسرحيَّة بِفلسطين، ثُمَّ بالإسكندريَّة وبِمُختلف مُدن الأقاليم المصريَّة بعد ذلك.
وفي 29 أيلول (سپتمبر) 1943م المُوافق فيه 30 رمضان 1362هـ، افتتح موسمه الجديد بِمسرحيَّاتٍ قويَّة شيِّقة. وكانت المسرحيَّة منها تُستبدَّل كُل ثلاث أو أربع ليالٍ. وبدأت – خِلال تلك الفترة – تظهر علامات الاعتلال على صحَّة الريحاني، ممَّا اضطرَّهُ إلى غلق أبواب مسرحه فجأة، في 20 شُباط (فبراير) 1944م المُوافق فيه 26 صفر 1363هـ، وظلَّ المسرح مُغلقًا حتَّى شهر آذار (مارس). وعندما استردَّ الريحاني صحته، قدَّم عرضًا بِدار الأوپرا. وانتهى الموسم في 11 أيَّار (مايو) 1944م المُوافق فيه 19 جُمادى الأولى 1363هـ. وفي 30 أيَّار (مايو)، وقَّع عقدًا لِتُمثِّل فرقته بِمسرحٍ صيفيّ – بالقاهرة – أنشأته دولت أبيض، زوجة المُمثل الكبير جورج أبيض. وظلَّ طوال الصيف يُمثِّل مسرحيَّة مُختلفة كُل ليلتين أو ثلاث. وعلى الرُغم من أنَّ الريحاني كان يُعيد تمثيل مسرحيَّاته القديمة، فإنَّ المسرح كان يمتلئ بِالجُمهُور كُل ليلة. وفي أغلب الأحيان، كان المُتفرجون يُشاهدون المسرحيَّة الواحدة أكثر من مرَّة. وبلغ من إقبال الجُمهُور على المسرح، أن ارتفعت مُدَّخرات الريحاني إلى نصف مليون جُنيه تقريبًا. وفي 2 تشرين الأوَّل (أكتوبر)، عاد الريحاني إلى مسرح «ريتس». فأخذ – مُنذ ذلك التاريخ – يُقدِّم مسرحيَّاته القديمة، حتَّى شهر آذار (مارس) التالي. وفي 4 آذار (مارس) 1945م المُوافق فيه 20 ربيع الأوَّل 1364هـ، قدَّم مسرحيَّةً جديدةً بِعنوان «إلَّا خمسة»، التي ظلَّت تُعرض بِنجاح حتَّى 18 حُزيران (يونيو). كما مُثِّلت بالأوپرا بِحُضور الملك فاروق. وبِهذه المسرحيَّة انتهى موسم الريحاني. وبعد إجازةٍ أمضاها في أوروپَّا، افتتح الريحاني موسم 45 – 1946 بِآخر مسرحيَّة مُبتكرة له هي «سلاح اليوم»، التي تتضمَّن ألذع هُجوم على القيم الماديَّة لِلمُجتمع، ولم تكن تلك المسرحيَّة من اللون الكوميدي، بل كانت جادَّة، وجوُّها سادته الجديَّة، ودلَّت بِشكلٍ أو بآخر على الصراع الداخلي عند الريحاني، ومسيرة حياته حتَّى تلك النُقطة: إنسانٌ شابٌ يمر في مرحلة الفقر والعوز دون أن يتلقَّى الضربات التي يُسددها لهُ المُجتمع، بل يُواصل نضاله بِصبرٍ وجَلَد حتَّى يبلغ النجاح. ولم تنجح «سلاح اليوم»، لِأنَّ الجُمهُور لم يتذوَّقها. لكن قلَّة – من أمثال طٰه حُسين – هي التي أدركت مضمونها وأوفتها حقها من التقدير.
تميَّزت السنوات الثلاثة الأخيرة من حياة الريحاني بالنجاح والتقدير المُزايد. وافتتح الريحاني موسم 47 – 1948 في 2 كانون الأوَّل (ديسمبر) بِمسرحيَّاتٍ قديمةٍ يُحبُّها الجُمهُور. وظلَّ يُمثلُ طوال الموسم بِمسرح «ريتس». وفي صيف سنة 1948م، انتقل مع فرقته إلى مسرح مُحمَّد علي بالإسكندريَّة، وبعدها أمضى شهرين بِأوروپَّا، ثُمَّ عاد إلى القاهرة في تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1948م. وفي تلك الفترة، وقَّع الريحاني عقدًا لِتمثيل فيلمٍ جديد بِعنوان «غزل البنات» الذي قُدِّر له أن يكون آخر أفلامه وعلامة بارزة في تاريخ السينما العربيَّة والمصريَّة. وشارك نجيب الريحاني البُطولة في هذا القيلم كُلٌ من ليلى مُراد وأنور وجدي – الذي تولَّى الإخراج أيضًا – وسُليمان بك نجيب وعبد الوارث عسر ويُوسُف بك وهبي، كما ظهر المُطرب مُحمَّد عبد الوهَّاب في آخر الفيلم مُؤديًا إحدى أُغنياته. أدَّى الريحاني في هذا الفيلم دور مُدرِّس لُغة عربيَّة بسيط يُدعى «حمام» يُغرم بابنة باشا ثري، ويتراجع عن حُبِّه لها في آخر الفيلم كي لا يقف حجر عثرة في درب سعادتها، وأظهر مقدرته الكبيرة على التنقل بين الكوميديا والدراما في عدَّة مشاهد، منها أحد المشاهد الأخيرة التي كان عليه أن يبكي فيها لِفُراقه ليلى مُراد بعد أن تعلَّق بها، فبدل أن يستخدم عقار الغليسرين لِإثارة دُموعه، بكى بُكاءً حقيقيًّا على الشاشة، وقال لاحقًا أنَّهُ تمكَّن من فعل ذلك بِأن ذكَّر نفسه بِشقيقه الذي خرج قديمًا من منزلهم ولم يعد. وبتاريخ 29 كانون الثاني (يناير) 1949م المُوافق فيه 30 ربيع الأوَّل 1368هـ، بدأ الموسم الشتوي الجديد. وفي 23 أيَّار (مايو) انتقل الريحاني إلى مسرح مُحمَّد علي بالإسكندريَّة لِإحياء موسم الصيف. لكنَّهُ أُصيب بِالتيفوئيد في 29 أيَّار (مايو)، ونُقل إلى القاهرة لِعلاجه.
وفاته
تُوفي نجيب الريحاني في 8 حُزيران (يونيو) 1949م المُوافق فيه 12 شعبان 1368هـ، عن عمر ناهز الستين عامًا، بعد أن تفاقمت حالته بسبب التيفوئيد، والذي أثر سلبًا على صحة رئتيه وقلبه وكان سببًا أساسيًا في وفاته في المستشفى اليوناني بالعباسيَّة. وقد تضاربت الأقاويل حول مدى لحاق الريحاني بتصوير مشاهده في آخر أعماله «غزل البنات»، مما اضطر مخرج العمل، أنور وجدي، بعمل تغيير بنهاية العمل.
جاءت وفاة الريحاني بمثابة الصدمة للكثيرين، حيث أن مرض التيفوئيد لم يكن له علاج وقتها في مصر، وقد قيل أن رئيس الوزراء مُصطفى النحَّاس باشا أمر بإحضار الحقن المُخصصة لِلعلاج من الخارج وتمَّ إحضارها بالفعل. فيما كشف الناقد المسرحي أحمد سخسوخ، العميد الأسبق لمعهد الفنون المسرحيَّة، عن أنَّ وفاة الريحاني كانت بسبب إهمال مُمرضته بالمُستشفى اليوناني، حيث أعطته جرعة زائدة من عقار الأكرومايسين ليموت بعدها بِثوانٍ. وكانت زوجة الريحاني الألمانيَّة لوسي دي فرناي قد قدمت إلى مصر للوُقوف إلى جانب زوجها، وأشارت جينا الريحاني – ابنتهما – أنَّ والدها توفي في أثناء غياب والدتها عند مُدير المُستشفى لِتطلب وُجود أحد الأطباء إلى جانبه بعد أن زادت صحته سوءًا، فلمَّا عادت وجدت إحدى المُمرضات تبكي خارج الحُجرة، فدخلتها لِتجد بأنَّ زوجها قد أسلم الروح. وقد أغلق الأطباء الحُجرة على الجُثمان ومنعوا أيًّا كان من دُخولها كي لا يُصاب بالعدوى، ثُمَّ نُقل الجُثمان إلى مكانٍ آخر. وكان لِنبأ وفاة الريحاني وقعٌ أليم في أنحاء مصر، وُصف بأنَّهُ «لا يقل في أثره عن وقع كارثة قوميَّة»، واشتركت الأُلوف في تشييع جنازته، ورثاه الملك فاروق الأوَّل وعميد الأدب العربي الدُكتور طٰه حُسين، فقال الأخير في رثائه
ومن الأُمور الطريفة الجديرة بِالذكر، أنَّ الريحاني كان قد رثا نفسه قبل وفاته بِخمسة عشر يومًا بِطريقةٍ فُكاهيَّة فيها نفحة من الألم، فقال: «مات نجيب. مات الرَّجُل الذي اشتكى منهُ طوب الأرض وطوب السَّماء إذا كان للسماء طوب.. مات نجيب الذي لا يُعجبه العجب ولا الصيام في رجب… مات الرَّجُل الذي لا يعرفُ إلَّا الصراحة في زمن النفاق.. ولم يعرف إلَّا البحبوحة في زمن البُخل والشُّح.. مات الريحاني في 60 ألف سلامة». وبعد وفاة الريحاني، انتقل شقيقه يُوسُف للعيش في شقة نجيب بِعمارة الإيموبليا ليندلع الصراع بينه وبين بديعة مصابني، أرملة نجيب، على التركة وتحجز المحكمة على التركة والشقة لِصالح بديعة. إلَّا أنَّ يُوسُف نجح بدوره في إثبات وقوع الطلاق بين بديعة ونجيب قبل وفاته لِتُصبح التركة من نصيب يوسف الريحاني. وفي نفس عام الوفاة، قام طلعت حسن، مُدير مسرح الريحاني، ببيع كُل ما يملكه الريحاني بِالمسرح لتجار الروبابيكيا بما فيها الملابس التي كانت بحوزة خيَّاطة فرقة الريحاني يونانيَّة الجنسية. وفي سنة 1961م، تم بيع مقتنيات شقة الريحاني بالمزاد العلني لسداد مبلغ 200 جنيه مُستحقات الضرائب. ولم يُحاول أحد تدبير هذا المبلغ سواء يُوسُف الريحاني الذي رحل عن الحياة بعد أيام قليلة من هذا المزاد، وتحديدًا يوم 22 آب (أغسطس) 1961م، أو بديع الريحاني الذي كان قد سافر إلى بريطانيا لدراسة الهندسة وتزوج من فتاة بريطانيَّة، تُدعى مرگوري فرانك روبين، وعادت معه لِمصر ليعيش في منزل من طابقين بِالمعادي، حيثُ نقلا إليه كُل ما تبقى من مُقتنيات عمِّه نجيب الريحاني ومُعظمها كان أُصول مسرحيَّات ولوحة كبيرة للراحل بألوان الگواش، رسمها الفنان الإيطالي بابادوبلو عام 1918م وأمامه شخصية كشكش بك التي اشتهر بها في المسرح. وقد أهدى بديع الريحاني هذه اللوحة لدار الأوپرا في بداية التسعينيَّات وما زالت موجودة في متحف الأوپرا.