صبحه بغوره تكتب : الثقافـــة الأمازيغية بيـــــن صفاء الماضي وتحدي الحاضر
الأحد 08-10-2023 17:13
بقلم : صبحه بغوره
ظلت الثقافة الأمازيغية القديمة بجمالية بلاغتها سؤال الهوية ، تحتفظ به الذاكرة الجماعية التي ضربت أطنابها في عمق التاريخ لأكثر من 5000 سنة قبل الميلاد ليؤكد التاريخ الأمازيغي أنها حركة أدبية وازنة ونهضة فكرية متقدمة تركت مداد أصابعها في الثقافات الأخرى عبر عاملي المثاقفة والمصاهرة وبالاحتكاك كما تشهد على ذلك العلاقات التجارية برا وبحرا، قال عنها المفكر الجزائري الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم “هي أمة عظيمة قدمت لغيرها أكثر من ما قدمت لنفسها،وأن كل ما نالته من تمجيد وما قيل عنها قاله أعداؤها والعدو غالبا ما يحاول التصغير من شأن من قام بمواجهته” ويعود الفضل الكبير في تدوين تاريخ الأمازيغ الى العلامة ابن خلدون في كتابه ” العبر وديوان المبتدأ والخبر” كذلك أبهرت كبار المهتمين بالتاريخ الانساني والباحثين القدامى أمثال هوميروس و هيرودوت حيث انبهرا بما أبدع فيه العقل الأمازيغي في مختلف جوانب الحياة السوسيوـ ثقافية ،ولم يسبق للأمازيغ بالمطلق أن عانوا من الفراغ الثقافي والإبداعي لحبهم للمعرفة وتمجيدهم للعقل الذي اعتبروه بداية المعرفة لفهم فلسفة الكون وأسرار الكائنات حسب منظور ديكارت فكرست ثقافتهم الواقع بالتاريخ والرمز بالجمال وأقاموا الدليل على مدى الوعي بالهوية الذي يشكل الوجود الأبدي داخل صراع الحضارات.
. معروف عن قبائل الأمازيغ أنهم أشداء ذووا جلد وصبر فعلى مدى ستة قرون من احتلال الرومان بلادهم في شمال إفريقيا وأسسوا فيها المدن والمسارح كمسرح مدينة تبسة والجامعات مثل جامعة “مداوروش”ثاني أكبر الجامعات في الإمبراطورية الرومانية بعد جامعة روما وأنجبت فيها الحضارة الرومانية المسيحية أعظم الفلاسفة اللاهوتيين في تاريخ الكنيسة من أمثال القديس أوغستين AUGUSTIN) ـ (ST بمنطقة عنابة إلا أنهم قاوموا محاولات الاندماج في ثقافتهم ولغتهم واعتناق دينهم وحاربوهم بشراسة لذلك بقي تغلغل الوجود الروماني هامشيا سطحيا لفظه عمق التجذر ورفضته الثقافة والأصالة الأمازيغية.
تتميز الحركة الفكرية الأمازيغية في الجزائر أنها وليدة رؤى متعددة وأنها تنهج مناهج مختلفة في طرح المواضيع التي تعالجها لكل مثقفيها ، وفي ذلك يؤكد تودروف أن الطبيعة التاريخية والثقافية هي أساس الخصوصية الأدبية وليست الطبيعة اللغوية ،والأدب يبتدئ بالبسيط جدا ومن المتواضع الفطري وينتهي إلى إرث نفيس ،فالحياة لا توجهها إلا دفة منظومة الأدب الذي حافظت عليه المرأة الأمازيغية بتوشيم جسدها بالحروف الأمازيغية ليس تعلقا بالإله ديونيزوس بل نكاية على صمت التاريخ وانهيار القيم فاحتفظت بأعز ما يمكن التباهي به اليوم وهي حروف ” التيفيناغ” الباحثة عن المكانة في المكان ، وتبقى ذاكرة الأجداد والجدات الوحيدة التي حاولت قدر الإمكان تعريف الأجيال على ما أتى عليه التهميش ولتقيم جسور التواصل من اجل ربط الحاضر بأهداب الماضي التليد من شعر وغناء وأمثال
نجدها في إبداعات المطرب الأمازيغي ” إدير” التي تعكس ثقافته طبيعة بيئته الأمازيغية الأصيلة فصاغ أشعاره بكلمات استوحاها من قريته النائية بأعالي جبال “جرجرة ” ونقلها بعدة لغات إلى كل أنحاء العالم لأنها غنية بالمضامين الإنسانية النبيلة ، ويقول :
مهما كانت الشمس ساطعة
وتحرق البساتين
ستصل السحب وتحجبها
من أراد خبز الأزهار
فلينزل إلى السهل
يتغلب على الكلب الشرس
ومن يريد الاحترام والتقدير
فليصعد إلى الجبل
ليأكل البلوط ذو القبعة
ومن أراد أن يزرع في البحر
ماذا يظن أنه سيحصد
وقد جعل ساحة درس السنابل في الماء.
للكلمات المترجمة عن اللغة الأمازيغية معاني ثقيلة عميقة ومستترة بالرغم من صياغتها البسيطة حيث يبدو الارتباط بالجبل مرادف للأمان وهي إشارة إلى مناطق تمركز قبائل الأمازيغ التي فضلوا البقاء بهاا مهما بلغت مشقة العيش فيها ، وهو إذ يؤكد ببداهة أن من يريد أن يبلغ ما يتمناه فعليه أن يواجه الأعداء إلا أنه ربط عناء هذه المواجهة بالمناطق السهلية حيث يضعف وجود العنصر الأمازيغي فيها وحيث تضيق سبل العيش والحياة.
لم يغفل الفنان ” إدير” عن حياته اليومية البسيطة التي عايشها لينقل الأفراح بالمولود الجديد بين البيوت الريفية بأشعار مستوحاة من تاريخ الأجداد وفي ذلك يقول :
ابــــــني
يا عيني انثري عليه السعادة
ليكبر مثل أقرانه
يحفظك الله يحميك ويصونك
أرش الملح باليد اليمنى
شعلتك لن تنطفئ إلى الأبد
ستصل إلى تحقيق احلامك
ابتسامتك مثل الفضة
تلمع على شفاهك
عينيك مثل بريق الذهب
نثرنا الملح باليد اليسرى
وراء الهضاب ترحل عين السوء
الملح يندثر وعين السوء تغرق
ابني احلى ما في الكون
عندما يتكلم الأمازيغية
سيغني ويرقص بها
سيكتبها ويزخرفها
إنه ابني
يكبر وينضج
سيصبح قويا مثل الحديد
ومحبوبا عند الناس
ورجلا وفيا لكلمته
أيها القمر أغمره بضوئك
أيها النجم أنر طريقه الصحيح
ولقد صارت هذه الكلمات أغنية تغنيها معظم الأمهات بصوت حنون لأطفالهن فيرسمن لهم بها مسار حياة و يحددن مصيرهم المرتبط بالأمازيغية لغة وهوية .
الشعراء الأمازيغ كغيرهم من الشعراء أبناء بيئتهم ،يكتبون بلغتهم ويغنون ويطربون فينقلون الصور من مخيلتهم في كلمات بسيطة إلى أشعار تغنى تسعدهم حتى في غربتهم عن وطنهم وفي ذلك يقول :
أنر الضوء لقلبي
تذكرت ما أخافني في الصخر
تحت الغطاء
حكاية أمي كأنها حدثت معي
تحكي عن الثلج
أشعر بالبرد
أما شــاهو
على الوحوش الموجودة في البراري
وفي الجبال يريدون أكلنا
أنر الضوء لقلبي
أين مشينا ظهر النجم
وأرانا الطريق
إلى بيوتنا
طلع الصباح وكأنه لم يحدث شيء
أشرقت الشمس
انتزعت الخوف منا
و أنارت الضوء لقلوبنا
ويستمد بعض الشعر الأمازيغي موضوعاته من الأساطير المحلية القديمة ومنها قصة ” أبابا أينوفا ” التي تحولت إلى أغنية شهيرة وتقول كلماتها :
أرجوك يا أبي ” أينوفا” افتح لي الباب
آه يـا ابنتي دعي أساورك ترن
أخشى من وحش الغابة يا أبي أينوفا
وأنا أيضا يا ابنتي أخشاه
الشيخ متلفع في برنوسه
منعزلا يتدفأ
وابنه المهموم بلقمة العيش
يعيد في ذاكرته صباحات الأمس
الكنة ناسجة خلف مندالها
دون توقف تحيك الخيطان
والأطفال حول الجدة
يلقنون ذكريات أيام زمان
الثلج الرابض خلف الأبواب
و”الإيحلونين” يسخن في القدر
والأعيان تحلم منذ الآن بالربيع القادم
القمر والنجوم مازالوا مختفين
خشب البلوط يحل محل حصيرة الصفصااف
العائلة مجتمعة تستمع بشغف لحكايا زمان
هذه الأشعار كلها مترجمة عن اللغة الأمازيغية ومستمدة من أسطورة جزائرية أمازيغية قديمة منذ مئات السنين تروي قصة فتاة أمازيغية تعمل مثل غيرها من الفتيات طول النهار في حقول الزيتون ، تقطف الثماروتحرث الأرض وتعلف الماشية ، حتى إذا غربت الشمس تعود وهي تجر تعبها إلى البيت حيث يقبع أبوها الشيخ وأخوتها الصغار، وحين تدق الباب يحتار أبوها إذ يخشى لو يفتح الباب لقادم لا يعرفه أن يكون كما تسميه الأسطورة ” وحش الغابة ” فيقضي على أولاده ولا يستطيع الدفاع عنهم، أم أن يسد الباب في وجه من تقول أنها ابنته، هي صورة لموقف إنساني غير موجود في أي تراث ،تقول الأسطورة أن الوالد طلب أن ترج الفتاة أساورها التي يحفظ صوتها فإذا سمعه فتح الباب لها ولما تحمله من رزق لهم ، عندها فقط تلج البيت بعد الاختبار وتأوي إلى حضن أبيها منشدة في حزن ” أخاف وحش الغابة يا أبي” فيجيبها متأسفا باكيا “وأنا أيضا أخافه يا بنيتي” ويطلب عفوها أنه لم يفتح لها الباب من أول طرقة .
تستمد الأمازيغية حيويتها من صفائها الأزلي وتراثها الغني بالمعاني والحافل بالمغزى والعبرة والدرس الذي شكل في مجموعه ثقافة اتسمت حركتها بتغذية شحنات عاطفية عالية حملت الكثير من الإثارة الحسية فجاءت أشعار الأمازيغ وفق ما تتطلبه القصائد من الحس الإبداعي وتكثيف المغزى والمعنى وتحتوي على تقريب العنوان الذي يرمز لدلالة المعنى وعلى حبك صياغة المدخل الذي يعبر عن المغزى القوي للقصيدة ، ويعيش الأمازيغ حاليا تحدي إثبات الذات ذلك انه عندما تحولت الذاكرة إلى وعي سياسي واجتماعي تولدت الجرأة الكافية لاكتشاف الوجه الخفي للتاريخ