الدكتورة منى حنا عياد تكتب : الجلابيه
الإثنين 10-11-2025 17:44
بقلم /دكتورة منى حنا عياد
البعض فى مصر من الذين قرأوا عددا من الكتب، ونصبوا أنفسهم نخب تنويرية، يتعالون على المجتمع والناس، ويسفهون من العادات والتقاليد، والملابس، وكان آخرها «الجلابية». هؤلاء يجهلون خريطة التركيبة السكانية فى مصر، وأن قيمة وعظمة المجتمع المصرى فى تعدد ثقافاته، من محافظات الدلتا للمحافظات الحدودية، ومن محافظات مدن القناة ، إلى محافظات شمال ووسط وجنوب الصعيد. كل محافظة تتسم بخصوصية شديدة، وعادات وتقاليد، بل إن لكل قرية التابعة لنفس المركز الإدارى الواحد التابع لنفس المحافظة الواحدة، تختلف فى جزء من ثقافتها عن القرية المجاورة، وفى اللهجة والعادات والتقاليد. هذه الأمية المفرطة للذين نصبوا أنفسهم نخبا، بخريطة التركيبة السكانية، أحدثت انفصاما كبيرا بينهم وبين الإجماع الشعبى، فالذى يرتاد مقاهى وسط القاهرة، ويتجول فى شوارع القاهرة الخديوية، ويذهب لميادين العاصمة المختلفة، ثم ينطلق للتجمع أو الشيخ زايد، يعتقد أن ما زاره هو مصر. والحقيقة التاريخية الراسخة، أن مصر 26 محافظة غير القاهرة العاصمة، وأن طوال تاريخ البلاد، الأطراف هى المؤثرة فى تشكيل الوعى أكثر من العاصمة، فخرج منها كبار الأدباء ورموز الثقافة والعلم والموسيقى والغناء وحتى الرياضة البدنية وفى القلب منها، لعبة كرة القدم. الأهم أن الأحداث التاريخية الجوهرية، وأبرزها حركات التحرر انطلقت من الأطراف، وإن كان جميعها انطلقت من صعيد مصر، بدءا من مينا موحد القطرين «وهو يرتدى جلبابه الفضفاض» وفى كل العصور التاريخية المختلفة. والذين سخفوا من «الجلابية» يعترفون على أنفسهم بأنهم يجهلون تاريخنا وموروثاتنا الشعبية، المتجذرة فى أعماق التاريخ، فالجلابية، ليست مجرد قطعة قماش، وإنما خيوط نسيجها تروى تاريخ المصريين، وتعبير حقيقى عن الهوية المصرية الأصيلة، وراية اعتزاز وكرامة وعراقة. الباحثون وخبراء التاريخ، يرون أن جذور الجلابية تعود إلى بداية عصر الأسرات، عندما كان يرتدى المصرى القديم ثوبا فضفاضا مشابه فى الشكل والمغزى، يعكس فلسفة الراحة والانسجام مع المناخ الحار. ثم تطور هذا الزى عبر العصور القبطية والإسلامية والحديثة والمعاصرة، فصارت له أشكال متعددة وألوان مختلفة، لكنها احتفظت بجوهرها. والجلابية فى صعيد مصر، تمثل هيبة هادئة وكبرياء صامت، واعتزاز وفخر بالموروثات والعادات والتقاليد، بجانب التعبير عن الرجولة والصدق، فهى لا تخفى عرق العامل، ولا تمنع حركته، بل تمنحه شكلا من الوقار الطبيعى. أما الجلابية فى الوجه البحرى، فتمثل علامة بارزة ومهمة على البساطة والكرم والفطرة، وكأنها امتداد لروح الأرض. إذن الجلابية ليست مجرد شكل من أشكال المظهر، ولا مجرد زى تراثى، بل سردية اجتماعية تعبر عن طبيعة المصرى، وفلسفته فى الحياة، القائمة على الرضا والاعتزاز بالجذور، ووثقها الأدب والسينما، باعتبارها علامة دالة بقوة على الأصالة، فأظهرت الفلاح، والجندى والعامل، وكأنها أذابت الفوارق وتعيدهم إلى بالبساطة والتشابه بين الجميع إلى حد التطابق. تأسيسا على ما سبق، نقول لكل من يسخر من لهجة، أو يستهين بالجلابية أو أى زى محترم ولائق، أو يتهكم على عادة، إنما يتحول لمعاول هدم للتاريخ والتراث الذى نفتخر به ونباهى به الأمم. ويهدم جدار البساطة والتشابه والمحبة الذى تأسس من اختلاف الوجوه واللهجات والأحلام. «الحكاية ليست جلابية».. القصة احترام ثقافة وموروثات شعبية متجذرة فى أعماق التاريخ، وأن الثقافة والتنوير لا يتقاطعان مع الأصالة والموروثات الشعبية القديمة قدم التاريخ. 


اترك تعليقاً