رئيس التحرير

محمد أكسم يكتب: حكاية لحن

الخميس 20-11-2025 18:15

 بقلم : محمد أكسم 

كانت الشمس تميل نحو الغروب فوق ضفاف النيل،والمدينة تغطى بضوء ذهبي خافت، وعلى أحد المقاعد الحجرية يجلس مصباح، عازف الكمان الكفيف, يحمل آلته التي تمثل امتداد لروحه. كان مصباح قد تجاوز الأربعين بوجه هادئ تغطيه ملامح الشجن، وشعره أسود تسرب إليه بعض الشيب، يرتدي معطفا رماديا بسيطا، ويجلس دائما في المكان ذاته عند السور الحديدي المطل على الماء، يعزف ألحاناً لا يعرف أحد من أين تأتي، لكنها تدخل القلب كأنها تعرف طريقها منذ زمن. في مساء أحد الأمسيات، وبينما كان يعزف مقطوعة حزينة، شعر بخطوات خفيفة تقترب، ثم بصمت طويل كأن الهواء نفسه توقف ليستمع, لم يسمع كلمات، فقط أنفاسا مرتجفة، ثم همهمة خفيفة من ابتسامة لم يرها، لكنه شعر بها. منذ ذلك اليوم، صارت الفتاة الغامضة تأتي كل مساء لم تتحدث يوما، كانت تجلس أمامه، تحمل بين يديها نايا صغيرا وتنتظر أن ينتهي من عزفه، ثم تبدأ هي في الرد عليه بنغمة قصيرة، كأنها تجيبه، أو تكمل ما بدأه. هكذا بدأ الحوار الصامت بين موسيقيين لا تجمعهما اللغة، بل النغمة، والإحساس، والفراغ بين الأصوات, بمرور الأيام، صار يعرف متى تكون سعيدة من طريقة عزفها، إن عزفت بسرعة، عرف أنها تضحك، وإن خرج صوت الناي حزينا، فهم أن دموعها قريبة وفي أحد الأيام، حين تجرأ وسأل صديقه الذي يبيع الشاي قال له اسمها ليان, فى الخامسة والثلاثون, كانت تدرس الموسيقى للأطفال ،وفقدت صوتها بعد حادث قبل عامين ظل مصباح صامتا لحظة طويلة، ثم قال بابتسامة هادئة. “إذن هي تتكلم بلغة لا يسمعها إلا من فقد البصر” مرت أيام وأسابيع، وصار للقائهما موعدا مقدسا على ضفاف النيل هي تعزف له بلحنٍ خجول، وهو يرد عليها بأوتار ناعمة الناس تمر من حولهما وتبتسم، لا أحد يفهم أن ما يسمعونه حديث إعجاب مكتمل الأركان ذات مساء، لم تأتى ليان,جلس مصباح وحيدا، انتظر حتى غابت الشمس، ثم عزف مقطوعة جديدة سماها ، لحنا مفعما بالشوق. وفي منتصف المقطوعة، هبت نسمة رقيقة، وحمل الهواء نغمة قصيرة من بعيد صوت نايٍ مألوف جدا ارتجف قلبه، وابتسم وهو يهمس في الهواء. كنت أعلم أنك ستأتى، حتى وإن لم أراك”ثم تابع عزفه” كانت نغمتها تقترب شيئا فشيئا، كأنها تمشي على سطح الماء، تتماوج مع أنفاس النيل وتختبئ بين صدى الكمان, أحس مصباح بأن الهواء صار أثقل قليلا، دافئا أكثر ورائحة خفيفة من عطر يعرفه جيدًا مرت بجانبه. توقف عن العزف للحظة، أصغى بكل حواسه, لم يسمع سوى صوت الموج الخفيف، وصوت نايٍ رقيق من بعيد، ينبعث من بين الأشجار كأن الريح نفسها تعزف. مد يده أمامه بخفة، وكأنه يتحسس الطريق إلى الصوت، ثم قال بصوت متهدج يغلبه التردد “ليان أهذا أنت؟” لم تأت إجابة لكن النسيم حمل إليه نغمة أخرى، أطول هذه المرة، وفيها شيء يشبه الضحكة، أو ربما البكاء. ابتسم مصباح، وضع الكمان على كتفه، وأكمل العزف كان يعزف لها وللنهر وللغياب. عند الفجر، حين بدأ الضوء الفضي ينعكس على صفحة النيل، مر بائع الشاي كعادته، فوجد الكمان على المقعد، مفتوحا على وتر واحد ما زال يهتز، كأن أصابعاً خفية تلمسه للمرة الأخيرة, أما مصباح، فلم يكن هناك,وصوت ناي بعيد يردد نفس اللحن الذي كان يعزفه كل مساء . ومنذ ذلك اليوم، يقول أهل الحي إنهم يسمعون عند كل غروب كماناً وناياً يتحدثان معا فوق صفحة النيل, أحدهما من الأرض والآخر من جهة لا ترى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *