رئيس التحرير

محمد أكسم يكتب: من أجل لقمة العيش تسرق الصحة وتضيع الأسرة

الخميس 11-12-2025 13:16

بقلم : محمد أكسم 

بلاشك أن العصر الحالي يشهد تحولاً كبيراً وعميقاً في مفهوم العمل، أن العمل لم يعد مجرد وسيلة لتحقيق الدخل أو فرصة لإثبات الذات فحسب، بل أصبح محورًا أساسيًا يتشكل حوله نمط الحياة اليومي. ومع تصاعد موجات السعي المستمر نحو الإنجاز وتعاظم قيمة الإنتاجية، وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل بات العمل عبادة تقدس أم عبئا نفسيًا يتضاعف مع كل يوم؟ هذا الصراع بين التقديس والاستنزاف يعكس حالة يعيشها ملايين حول العالم حيث تزايدت ثقافة الاحتفاء بالعمل الطويل، وأصبح اليوم ينظر إلى الشخص من خلال عدد الساعات التي يقضيها في العمل بدلًا من جودة ما يقدمه. فقد أصبح العمل لدى كثير من الموظفين والعمال تجربة قاسية تثقل كاهلهم يوماً بعد يوم، فالساعات الطويلة التي يقضونها داخل أماكن العمل تحولت إلى نمط حياة ثابت لا يترك لهم مساحة للتقاط الأنفاس أو استعادة نشاطهم. هذا الامتداد المرهق لساعات العمل لم يعد مجرد التزام وظيفي، بل صار عبئاً يستنزف الطاقة الجسدية والنفسية، ويجعل يوم العامل يذوب بالكامل دون أن يشعر بأنه حقق شيئاً لنفسه. ورغم هذا الجهد الكبير، يأتي الراتب الغير مناسب ليشكل صدمة يومية للموظف، حيث تصبح متطلبات الحياة أكبر بكثير مما يجنيه كل شهر, لا يجد الموظف أو العامل ما يكفي لتلبية احتياجات أسرته الأساسية، فيعيش في صراع دائم بين ما يجب دفعه وما يستطيع دفعه، وهو صراع لا ينتهي ويترك بداخله شعوراً بالعجز المستمر أمام نفسه وأسرته. مع طول الساعات وضغط المهام وقلة العائد، يفقد الموظف قدرته على الإبداع شيئاً فشيئاً و يتحول العمل إلى واجب يومي يؤدى بلا حماس وبلا حب، مجرد روتين يكرره العامل بحكم الحاجة وليس رغبة أو شغف, ومع غياب البيئة الداعمة، تتلاشى فرص التطوير، وتبقى المهارات معلقة بلا نمو أو تحسن. حيث يقف العامل اليوم في مواجهة هذه الضغوط بلا قدرة على التغيير, فهو محتاج للعمل ولا يستطيع الاستغناء عنه، فيتقبله كما هو رغم قسوته, يومه يضيع بالكامل بين الذهاب والعودة والإنهاك المستمر، وصحته تبدأ بالتراجع تدريجياً نتيجة الإجهاد وقلة الراحة. ومع ذلك لا يجد حتى الوقت ليجلس مع أسرته أولاده وزوجته لبحث مشاكلهم والعمل على حلها، أو يمنح نفسه فرصة للراحة أو ممارسة أي نشاط يعيد إليه توازنه, تصبح الحياة مختصرة في العمل فقط، وكأنها لم تخلق لشيء غير ذلك, كذلك المرأة ساعات العمل الطويلة تأتى على حساب بيتها فهى تأتى الى المنزل متعبه ومجهدة ليس لديها اى وقت أو جهد لطعام أولادها أو متابعة دروسهم وقد يؤدى ذلك لانهيار الأسرة. وقد تتعدد الأسباب التي تدفع هذه الأزمة إلى التفاقم، من بينها ضعف قوانين حماية العمال، وغياب الرقابة على ساعات العمل الفعلية، وتراجع الزيادات السنوية، وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل يفوق قدرة الرواتب على مجاراته,كما أن بعض المؤسسات تستغل حاجة الموظفين، فتحملهم مسؤوليات تفوق طاقتهم دون تعويض مناسب. ولا يمكن تجاوز هذه الأزمة إلا بإعادة النظر في هيكلة ساعات العمل بما يضمن توازناً صحياً بين الحياة المهنية والشخصية، إلى جانب ضرورة رفع الرواتب بما يتناسب مع متطلبات الحياة الفعلية. كما يجب خلق بيئة عمل تشجع على الإبداع والتطوير المستمر، مع التزام المؤسسات بوضع حدود واضحة لمنع استغلال العامل, إن استعادة إنسانية الموظف تبدأ من منحه حقه في الوقت والراحة والعيش الكريم، وهو ما سيعود بالنفع على المؤسسة نفسها قبل العامل. العودة إلى حالة التوازن لا تعني التخلي عن الطموح بل إعادة صياغة العلاقة مع العمل. تبدأ هذه العملية حين يضع الفرد حدودًا واضحة بين وقته المهني وحياته الخاصة، وحين يتخلّى عن عادة مقارنة نفسه بالآخرين، ويمنح نفسه مساحة للراحة دون شعور بالذنب. كما أن طلب الدعم عند الشعور بالضغط ليس ضعفًا، بل خطوة واعية نحو حماية الصحة النفسية. وحتى في أكثر الفترات ازدحامًا، يبقى للراحة دور أساسي في تجديد الشغف واستعادة القدرة على الإبداع العمل عبادة وقيمة عظيمة لا يمكن الاستغناء عنها، لكنه ليس كل الحياة,ولا ينبغي أن يتحول إلى عبادة نتقرب بها على حساب صحتنا، ولا إلى عبء نجره معنا رغماً عنا. والحل يكمن في إعادة الاعتبار للإنسان داخل منظومة العمل، وفي إدراك أن النجاح الحقيقي يقوم على التوازن لا على الإنهاك, وعندما نصل إلى هذا الفهم، ندرك أن العمل وسيلة للحياة لا غاية تستنزفها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *