ابراهيم العمدة : يكتب حبس الصحفيين.. رسالة خطيرة تهدد الوطن وصورته
الثلاثاء 16-12-2025 14:42
الفراخ خرجت من القفص لتحبس الصحفيين!
عبارة قد تبدو صادمة أو ساخرة، لكنها للأسف تلخص واقعًا مريرًا نعيشه اليوم. لم تعد القضية مجرد أخبار متفرقة عن استدعاءات أو قرارات حبس، بل أصبحت مشهدًا عامًا يتكرر بشكل يثير القلق ويحتاج إلى تفسير عاجل وصادق، إذا كنا فعلًا نريد إصلاح الحياة العامة وتغيير الصورة التي ترسخت في أذهان الناس: أننا عدنا إلى زمن الصمت وتكميم الأفواه.
الحقيقة أن كل ما يجري الآن يضع علامات استفهام كثيرة حول مستقبل حرية الرأي والتعبير في بلد ظل يتباهى طويلًا بأنه يسير في طريق الإصلاح والانفتاح السياسي. الناس تتحدث في الشارع وفي مواقع التواصل وفي المقاهي عن الحريات أكثر من أي وقت مضى. الكل يسأل: لماذا يُحبس الصحفيون؟ ولماذا تُرسل هذه الرسائل السلبية في وقت تحتاج فيه الدولة إلى دعم الثقة لا فقدانها؟
أنا هنا لا أكتب دفاعًا عن أشخاص، بل دفاعًا عن مبدأ. أدافع عن مهنة الصحافة التي من المفترض أن تكون محصّنة بالقانون والدستور، وعن حرية الكلمة التي هي أساس كل إصلاح حقيقي. لأن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يُحسب على الدولة — ظلمًا أو عمدًا — أنها تعادي الصحافة وتقمع الرأي. فمثل هذه الرسائل لا تمر مرور الكرام، بل تلتقطها المنظمات الدولية وتحوّلها إلى عنوان دائم عن “دولة تقمع الحريات”.
خطورة قضية حبس الصحفيين لا تكمن فقط في عدد من تم القبض عليهم، بل في الرسالة التي تُوجّه للعالم وللداخل. فكل قرار من هذا النوع يُقرأ سياسيًا وإعلاميًا على أنه تراجع عن مسار الإصلاح، وتأكيد على عودة القبضة الأمنية في التعامل مع الرأي والكلمة.
الملف الاقتصادي يمكن أن يحتمل بعض التبريرات: الغلاء وارتفاع الأسعار وتآكل الدخل أزمات تضرب أغلب دول العالم، وهي لا تُحسب ضد الدولة في موازين الديمقراطية. أما ملف الحريات فهو الأخطر، لأنه لا يقبل الأعذار، ولا يُقاس إلا بمعيار واحد: هل الناس أحرار في التعبير عن آرائهم؟ وهل الصحافة قادرة على أداء دورها دون خوف؟
حين تُرسل الدولة رسالة حبس للصحفيين، فإنها تضع نفسها في مرمى الانتقاد الدولي، وتفتح الباب أمام خصومها وأعدائها لاستغلال تلك الصورة، والحديث عن دولة تُكمم الأفواه وتقمع الرأي. وهنا مكمن الخطورة: لأن هذه الصورة لا تُمحى بسهولة مهما حاولنا تحسينها أو تبريرها.
لا يمكن إنكار أن الوضع العام في البلاد الآن مؤسف في أكثر من ملف.
الملف السياسي، فقد كشفت الانتخابات الأخيرة عن حالة من الجمود والعجز عن إحداث إصلاح سياسي حقيقي، بل زادت الشكوك حول جدية فتح المجال العام.
ثم جاء الملف الأخطر — ملف الصحافة — ليشعل ما تبقى من ثقة.
حبس الصحفيين أصبح حديث الناس في البيوت وأماكن العمل، وموضوعًا يوميًا على مواقع التواصل، بل مادة دائمة في التقارير الدولية. الناس تتساءل: لماذا الآن؟ لماذا نُحاكم الكلمة بينما نرفع في العلن شعارات حرية الرأي والتعبير؟
رئيس الوزراء نفسه تحدث مؤخرًا عن حرية الصحافة وحق الرأي والتعبير، لكن حديثه جاء متناقضًا تمامًا مع ما يحدث على الأرض. فبعد أيام فقط من كلمته، تم القبض على عدد من الصحفيين ورؤساء التحرير. كيف يمكن للناس أن تصدق حديث الحكومة عن الحريات بينما تشاهد بأعينها من يُساقون إلى التحقيق بسبب آرائهم؟
الناس لم تعد تُصدق التصريحات، بل تنظر إلى الأفعال. والمفارقة أن هذا المشهد تزامن مع تراجع دور البرلمان في الرقابة على الحكومة، ما جعل الصحافة هي آخر صوت يمكن أن يعبّر عن الشعب ويراقب الأداء الرسمي. فإذا تم إسكاتها، فمَن يتحدث؟ ومن يراقب؟
الصحافة ليست عدو الدولة ولا خصمها، بل هي شريكها الحقيقي في البناء والتصحيح. فهي التي تكشف الفساد، وتسلّط الضوء على التقصير، وتنقل نبض الشارع إلى صانع القرار. وعندما تتحول الصحافة إلى متهم، وعندما يصبح السؤال: “من القادم؟”، نكون أمام خطر حقيقي يهدد استقرار المجتمع ذاته.
إذا كان البرلمان يتمتع بحصانة تمكن أعضائه من الحديث بحرية ومساءلة الحكومة دون خوف، فكيف لا تتمتع الصحافة بحصانة مماثلة، وهي تمثل عين الشعب ولسانه؟ لماذا تُعامل الصحافة كطرف يجب تقييده بدلًا من دعمه؟
حرية الصحافة لا تقل أهمية عن حرية البرلمان، بل تفوقها في الأثر؛ لأن الصحافة لا تتحدث باسم فئة أو حزب، بل باسم الناس جميعًا. وحين تُكمم الأفواه، يصبح الوطن بلا عين ولا صوت.
سياسة الصمت وتكميم الأفواه لن تحمي الوطن، بل تهدده. كل تجارب التاريخ تؤكد أن المجتمعات التي قُمعت فيها الكلمة سقطت في الفساد والاستبداد. وعندما تُحبس الحقيقة، يملأ الفراغ الكذب والشائعات، وتضيع الثقة بين الدولة والمجتمع.
أعداء الوطن لا ينتصرون بالسلاح، بل باستغلال الأخطاء الداخلية. وحين تُحبس الصحافة، فهم يجدون الفرصة الذهبية لتشويه صورة الدولة في الخارج، وتحريك الرأي العام العالمي ضدها.
حرية الرأي والتعبير ليست رفاهية ولا مطلبًا نخبويًا، بل ركيزة أساسية لأي مجتمع يريد الاستقرار والتقدم. لا يمكن لأي دولة أن تبني اقتصادًا قويًا أو نظامًا سياسيًا نزيهًا وهي تُكمم الأفواه. فالشفافية والمساءلة لا تأتي إلا من خلال صحافة حرة قادرة على الوصول إلى المعلومة ونشرها.
ولهذا يجب أن تُفعّل حصانة الصحفيين مثلما تُفعل حصانة النواب. فالصحفي حين يؤدي عمله ليس مجرمًا ولا معارضًا، بل يمارس حقًا دستوريًا أصيلًا. وإذا أخطأ، فهناك نقابة مهنية وقوانين تنظم المحاسبة دون أن يُزج به في السجن.
الاستدعاءات الأخيرة لعدد من الصحفيين والكتاب، مثل ما حدث مع الزميل أحمد رفعت واستدعاء الكاتب عمار علي حسن، تُعتبر مؤشرات مقلقة على تضييق خطير في هامش الحرية. هذه ليست مجرد “إجراءات قانونية”، بل رسائل سياسية لها أثر مدمر على صورة الدولة داخليًا وخارجيًا.
العالم أصبح قرية صغيرة، وكل حدث يُرصد ويُنشر في لحظات. والمنظمات الدولية تتابع، والبيانات تُكتب، والنتائج تُسجل في التقارير السنوية التي تحدد فيها الدول مصاف “الديمقراطية” أو “القمعية”. فهل نريد أن نظل في هذه الصورة؟ هل هذا ما نطمح إليه؟
الحريات لا يمكن تجزئتها أو تفصيلها على المقاس. من يطالب بحرية الاقتصاد، عليه أن يؤمن بحرية الصحافة. ومن يتحدث عن الانفتاح السياسي، عليه أن يقبل النقد والمساءلة. لا يمكن أن نفتح الأبواب في ملف ونغلقها في آخر.
الصحافة ليست خطرًا على الدولة، بل ضمانة لاستقرارها. وحين نكبتها، فإننا نفقد البوصلة التي توجه السفينة وسط أمواج الأزمات. تكميم الصحافة لن يُخفي الحقائق، بل سيدفعها إلى الخفاء، وهناك تتحول إلى شائعات لا يمكن السيطرة عليها.
إذا كانت الحكومة جادة فعلًا في الإصلاح، فالبداية يجب أن تكون من احترام حرية الصحافة. لا إصلاح بلا شفافية، ولا شفافية بلا إعلام حر.
ولا يمكن بناء الثقة بين الدولة والمجتمع إذا شعر الصحفي أنه مهدد في كل لحظة، وأن الكلمة قد تجره إلى السجن.
الصحافة الحرة لا تعني الفوضى، بل تعني المساءلة والانضباط والمصداقية. والدولة القوية هي التي تحتمل النقد، لا التي تخاف منه.
إن العبث في ملف الحريات يهدد الوطن وصورته في الداخل والخارج.
الأوطان تُقاس بمدى احترامها للإنسان، والإنسان لا يُحترم إلا حين يُسمح له بالتعبير عن رأيه بحرية وأمان.
يجب أن ندرك أن حرية الصحافة هي صمام الأمان لأي دولة حديثة.
هي التي تُنذر بالخطر قبل وقوعه، وتكشف الفساد قبل أن يستفحل، وتمنح المواطن الثقة في أن هناك من يتحدث باسمه ويدافع عن حقوقه.
يا سادة، ما يحدث الآن ليس مجرد أزمة مهنية بين الصحفيين والسلطات، بل هو أزمة وطن بأكمله. لأن إسكات الكلمة يعني إسكات الضمير الجمعي. وعندما يُخنق الصوت الحر، تُفتح الأبواب للفوضى والظلم والفساد.
الأوطان التي سجنت صحافتها لم تنتصر، بل انهارت من الداخل.
والدول التي احترمت الكلمة صمدت وتقدمت.
لهذا، فإن الدفاع عن حرية الصحافة ليس دفاعًا عن أشخاص أو مؤسسات، بل دفاع عن مصر نفسها، وعن صورتها، وعن مستقبلها كدولة تريد أن تُحسب بين الأمم الحرة لا بين الدول القامعة للحريات.
الصحافة ليست تهمة، والصحفي ليس مجرمًا.
الكلمة الحرة لا تهدد الدولة، بل تحميها.
وحين نحمي الصحافة، نحمي الوطن.
وللحديث بقية


اترك تعليقاً